محمد الرشيدات


تنظيم الثقافة أمر هام

لكن ضمن نطاق العادات والتقاليد

أهمية تنويع التمويل المالي للمؤسسات الثقافية غير الحكومية

أكد وزير الخارجية الأردني الأسبق د. صلاح الدين البشير على أهمية تنويع أوجه التمويل المالي المستدام للمؤسسات الثقافية غير الحكومية، مشيراً الى أن التسويق الثقافي يعد جزء من استمرارية حركة الأدب والقراءة، ومنوهاً إلى أن تنظيم الثقافة يعتبر أمراً هاماً ولكن ينبغي أن يكون ضمن نطاق العادات والتقاليد.

جاء ذلك ضمن بَوْحٌ ثقافي خصّ به البشير «الوطن»، على هامش محاضرة ثقافية ألقاها مؤخراً ضمن الفعاليات التي يضمّها ربيع الثقافة في حُلّته

الـ18.

البشير الذي تسلّم سابقاً حقائب وزارية أردنية عديدة، فضلاً عن ترأسه للمنظّمة الدولية لشركاء الأعمال القانونيين، وانضمامه في العام 2021 إلى لجنة الأنظمة بالهيئة الملكية لمحافظة العُلا في المملكة العربية السعودية، استفاض لسانه بالحديث حول كلّ ما يخصُّ الأبعاد والمنطلقات وحتى التحدّيات التي تواجه العمل الثقافي العربي، الذي له في كلّ رُكنٍ مقام ومقال، يلامسان بفحواهما لغةَ وعادات وتقاليد ومبادىء أي مجتمع يتنوع بمعتقداته وأنماطه الحياتية.

وزير الخارجية الأردني الأسبق ربط حتميةَ ما يقتضيه الصالح العام من تنظيم شامل للثقافة، بالمحافظة على التراث المحلّي، وحماية الملكية الفكرية، ومراعاة المعايير المتعلقة بالمنتج الثقافي، الذي وإن لامسته الرصانة ورافقه عمق المضمون والمحتوى، فإنّ ذلك من المؤكّد أن يقود نحو تعزيز التعددية والتنوّع الثقافي، ممّا سيساعد أفراد المجتمع العربي على وجه التحديد باستخدام تعبيرات صائبة تمثّل النطاق الكلّي لثقافتهم الأصيلة، وتقي من حدوث أي تشويه ثقافي لمجتمعاتهم التي يمتدّ عمرها منذ قرون طويلة.

واستكمالاً لجزئية تنظيم الثقافة، أشار البشير إلى بعض الممارسات السلبية التي تحول دون حدوث ذلك، ومنها حرية التعبير المفرطة، والمبالغة في استخدام الأدوات الدخيلة على الثقافات المحافظة، وعدم الاكتراث لخطورة وسائل التواصل الاجتماعي التي أفرزتها العولمة، «فمقص الرقيب» حسب تعبيره لم يَعُد يمتلك تلك القوّة في إيقاف التعبيرات الثقافية الفردية غير المرغوبة فيها، خاصّة مع بروز منصّات ثقافية عولمية يُبحِرُ فيها من يُريد الإبحار حتى وإن كان لا يُجيده، ليؤدّي ذلك إلى تآكل الثقافة المحلية وحتى تسليعها، أي أن تصبح سلعةً تستبيح تداولها بعض العقول التي تقلل من قيمتها، نافياً أن يصبح لتنظيم الثقافة العربية المسلمة أي تبعات سلبية تَحُدُّ من نطاق الانفتاح على ثقافة المجتمعات الأخرى، وإدخالها في حسابات مُكرَهة لا تريد التعامل مع معطياتها، فالاطلاع على ثقافات العالم العديدة أمرٌ واجبٌ، إن أُخِذ منها السمين وتُرِك الغث، للارتقاء في منالية المحتوى الثقافي، ضمن مفاهيم عميقة ومتّزنة تشجّع على التبادل الثقافي بين الشعوب، ولا تصيب بدن الثقافة بخلل قد يُبطىءُ من تطورها ونهضتها.

البشير أيضاً، عرّج إلى مدى ارتباط الثقافة بالتراث، وأهمية انتقاء أنجع الأدوات التي تغلّظ الوثاق بينهما، للحفاظ على رونق الرسالة الفكرية والتاريخية، وذلك سيكفل إتمامه العمل الجماعي بين المؤسسات الحكومية والخاصّة برفقة جهات العمل المدني والتطوعي، وما سينتج عنه من مبادرات ثقافية تُحاكي حفظ التراث وتطوير المواقع التراثية، بشكل يُبشّر بمردودات اقتصادية كبيرة تعود بالنفع على المجتمع ككل، ناهيك عن ولادة سياسات حصيفة تنهض بدور الألباب المؤثرة في محيطها، وتُفصِحُ عن جمالية علاقة إنتاج المجتمع للفرد، وإنتاج الفرد للثقافة بطريقة لا تعرف الجمود، تُغذّي مفاهيمَ شاملةٍ، تخاطب الثقافة بلغة الفن الذي يكون فيه الإنسان إنساناً، وكيف لها أن تصحَبَ ذاته إلى أعالي السماء الأدبي ضمن مراحل نمو عضوي لمكامن المعرفة لديه، والتي تتنوع منابعها إمّا من خلال المسرح أو الأدب أو الشعر أو السينما أو الموسيقى.

وحول الإبقاء على حيوية الدم ونشاطه في عروق مؤسسات المجتمع المدني الثقافية، أوضح وزير الخارجية الأردني الأسبق أن تلك المؤسسات تواجه مشكلات عديدة تهدد سمو الأهداف المجتمعية التي تحمل على عاتقها إتمامها، يتقدّمها ضعف مصادر التمويل العام، ومنافسة باقي القطاعات بالحصول على تمويل الجهات الخاصّة، وهي بذلك تصطدم بواقع مرير يتمثّل بفشل المؤسسات الثقافية في إيجاد نموذج تمويل مستدام، ليضيف «البشير» عوائق أخرى تحول دون إكمال تلك المؤسسات البناء على ما قامت عليه من أفكار وخطط وبرامج تغذّي الفكر المجتمعي بجملة من المعارف والعلوم جيلا بعد جيل، والتي من أبرزها، التأخر في إصدار الرخص والموافقات الرسمية لبدء مزاولة عملها، فضلا عن وجود حجم كبير من الأخبار الزائفة والذباب الإلكتروني، الذي قد يوسع من فوّهة عدم الثقة بين الدولة والمؤسسات الثقافية غير الحكومية، وذلك راجع من وجهة نظره إلى ضعف أدوات الرقابة على المواقع غير المرخّصة في بعض الدول، إضافة إلى مشكلة عدم استدامة عمل الموارد البشرية في مؤسسات المجتمع المدني.

وعلى صعيد ذلك، سارع البشير نحو تقديم وصفة قد يكون لها شأن علاجي لتلك المعضلات، تتحقّقُ من نافذة زيادة رغبة وشغف العاملين والقائمين على تلك المؤسسات، وتثمين دورهم المجتمعي في نشر الثقافة، بالإضافة إلى وجوب إحياء منظومة الوقف الإسلامي، وعطفاً على ما ذُكِرْ، إيجادُ جسر متين لصور من الحوار والتواصل الرحب والمستمر بين الدولة والمؤسسات الثقافية، بما يصبُّ في اتجاه زيادة الثقة، وحدوث تنظيم ذاتي للثقافة، وصولاً إلى أهمية تفعيل الشراكة مع الحكومات الناطقة باللغة العربية، لحل مشكلة الخوارزميات التي تستهدف المحتوى الثقافي بمبادئه الواسع.

البشير لفت أيضاً، إلى ضرورة تبسيط المفاهيم والمعاني الثقافية وحتى القوانين المحدّدة لعملها للأجيال الناشئة، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار مزاحمة الآلات الحديثة في اعتلاء سلّم اهتماماتها، وقضاء النصيب الأوفر من الوقت في صحبة الشبكة العنكبوتية، مؤكّداً على ضرورة الانتقاء بعناية لماهيّة الوعاء الثقافي للغةٍ تكتسبها تلك الأجيال ضمن حدود سلوكياتها الفردية وتقاليدها التي تربّت عليها،من الروحانيات والمأكل والملبس، فإمّا أن تؤثر عليها إيجاباً أو سلباً، وبالنهاية من الجيد بمكان تعزيز ثقافة المتلقي مهما بلغ سنه،وترسيخ روح الانتماء والأصالة والاعتزاز لديه بماضيه وحاضره.

وبنهاية حديثه لـ«الوطن»، أشاد وزير الخارجية الأردني الأسبق بنجاح الطرق المتّبعة في كيفية التسويق الثقافي داخل دول المشرق العربي وبالأخص الخليجية منها تحديداً، والذي يحمل معه عوائد إيجابية، ليأتي على ذكر الأسباب التي تقف خلف فلاحِه، كالمستوى الاقتصادي المرتفع، وحجم الاستثمار الحاصل بالثقافة، وكيفية تصديرها على الشكل الأمثل لتصل إلى شتى بقاع العالم، ومساندة المؤسسات الثقافية من قبل الحكومات، وهذا مما لا شكّ فيه، سيؤدي إلى امتهان واحتراف العمل الثقافي، ويقي المسيرة الثقافية من حدوث أي حالةِ انكماشٍ ثقافي تعترض طريق استمرارية حركة الأدب والقراءة والموسيقى الهادفة على حدّ تعبيره.