محمد الرشيدات
4 مرّات أوّلها عام 1936 وآخرها 2024
تسلّط الحريق وتمادى، وما برح أن يفارق تهديده معلماً تاريخياً يعود إنشاؤه لبدايات القرن الـ19، مستهدفاً قيمته التراثية، ضارباً عمق جذوره التليدة كصرح يحمل أقدم اسمٍ سُطّرت معانيه بأحرف من ذهب، ويضمُّ مباني يرجع تاريخها إلى أكثر من 100 عام، استقرّت فيها تارّة، ومرّت في محيطها تارة أخرى شخصيات خالدة، سياسية كانت أم اقتصادية وحتى ثقافية، ما زال الجيل الحاضر يستذكر مناقبها.
في سوق المنامة القديم حكايات تُسرد، ولحظات تكاد تستوطن الجدران، منها ما هو مفرح، وعلى النقيض من ذلك، منها المحزن، خصوصاً مع ما شهده السوق وطوال سنوات خلت من حرائق أصابت أبنيته السكنية والتجارية بالهوان، مخلّفة وفي كلّ مرّة دماراً وسواداً يُحدِثه دخان اندلاع ألسنة النيران في أروقته، يقف خلفها مراراً وتكراراً سببٌ ليس الأوحد وإنما الأبرز، تماس كهربائي ناتج عن زيادة جهدٍ في جسد التمديدات الكهربائية التي في الغالب ما تكون قديمة التوصيل، ومهترئة نتيجة لتقادم السنين والظروف الجوية التي توالت عليها، فضلاً عن تشابك تلك الأسلاك بين بعضها البعض، وإلى جانب آخر، ما تستخدمه أغلب المحلات التجارية التي يضمّها سوق المنامة القديم من مكيّفات هوائية متهالكة سرعان ما تسبب ضغطاً كبيراً على شبكة الكهرباء، وغيرها من الموجبات المسببة للحرائق.
وغير بعيد عمّا ذُكر آنفاً، يفرض الهدوء نفسه بعد عاصفة الحريق التي راح ضحيتها 3 أرواح وأصابت العشرات اختناقاً، و ألمّ الدمار بأكثر من 80 محلاً تجارياً بعضها مستقل، والآخر يشكّل جزءاً من أركان عمارات متعددة الطوابق يختلف استخدام شققها، فمنها ما تستخدم لحفظ البضائع، إلى جانب ما يتم توظيف جزء منها كسكن للعاملين في المحلات، وكلّها ترزح تحت وطأة عمر افتراضي أكل منه الزمن وشرب.
إذاً، هي ربّما تكون تجاوزات كبيرة وكارثية يجب الالتفات إليها ووضعها تحت مجهر الجهات المختصة بالرقابة عليها، لإيجاد معالجات عاجلة ورادعة من شأنها إيقاف مسلسل الحرائق وخسارة الأرواح والممتلكات.
عوائق تحول دون
تحجيم الخطر وتوسّعه
البنية التحتية لسوق المنامة القديم وحال طرقه وأزقته الضيقة هي مثار جدل عند حدوث غير المتوقع من الحوادث، فبحسب رأي أفضى به لسان التاجر حسن جناحي لـ«الوطن»، تطرّق لجملة من العوائق تَحُولُ دون تدارك أي خطر وتحجيم توسّعه وإنقاذ الوضع الذي يكون قائماً في لحظتها، من أبرزها وجود تجاوزات في بناء وتأسيس بعض الممرات الداخلية في السوق والتي تشكّل عائقاً لدخول آليات الدفاع المدني وصعوبة وصول فرق الإنقاذ للتعامل مع أي حدث طارىء.
وأضاف جناحي، أنه وبعد كل حادثة حريق نشهدها يتكرر مشهد الوقوف على الأخطاء التي تعاظمت مع مرور الوقت، والتمني بأن الذي حصل ليته لم يحدث، مشدداً على ضرورة التحرّك الفوري لإيقاف كتابة روايات الحرائق المتكررة بين الحين والآخر والتي تستبيح أمان واستقرار محلات سوق المنامة القديم وكل العاملين فيه، متسائلاً: هل علينا رؤية حريق آخر حتى نستيقظ من نومنا؟
ودعا جناحي إلى حتمية تشكيل فريق تفتيش مشترك يضم هيئة الكهرباء والماء ووزارات البلديات والأشغال والصحّة يتولّى مهمة تنفيذ جولات رقابية دورية ومكثفة للسوق وغيره من الأماكن الحيوية، للوقوف أولاً بأول على أي تجاوزات أو مخالفات فردية.
جناحي أوضح وجهة نظره حول كيفية صرف التعويض المادي للمتضررين من الحريق ووضعه في مكانه الصحيح وبشكل مدروس، إذ من المنطقي جداً أن يتم إعطاء التعويض أولاً لأصحاب المحلات المتضررة، ومن ثَمّ منحها لمن أغلقت محلاتهم القريبة من مكان اندلاع الحريق، وهذا ما ترتّب عليه عدم تمكّنها من مزاولة نشاطها التجاري في البيع خصوصاً في موسم العيد، مشيراً إلى أن التكاليف الشهرية المترتبة على أغلب أصحاب المحلات تزيد على 1800 دينار بواقع 60 ديناراً مع كل إشراقة شمس.
ولفت كذلك، إلى أن السوق بات بأمس الحاجة إلى إعادة تخطيط وتنفيذ المناطق المتهالكة فيه بطراز قديم وتاريخي بمواصفات حديثة وعصرية، باعتباره مركزاً للتجارة والسياحة ويعتبر أحد معالم مملكة البحرين لأهلها وزوارها، مطالباً بالإسراع في تطويره، والاستعجال في إزالة الأنقاض والدمار الذي خلّفه الحريق في الوقت الحالي، إلى جانب إضافة خدمات يحتاجها المرتادون إليه، مثل مواقف السيارات، والمرافق الصحية، وغيرها الكثير.
إنقاذ السوق والنهوض
به.. عمل جماعي
رئيس اللجنة الأهلية لتطوير سوق المنامة القديم رياض المحروس صاحب الـ65 ربيعاً، والمالك لمحل مختص ببيع جميع مستلزمات الأسرة داخل سوق المنامة القديم، سرد وأسهب في كلامه لـ«الوطن» معاتباً التباطؤ في إيجاد الحلول المُنقذة لواقع السوق واقتلاع المعضلات من جذورها، داعياً برجاء الحريص على المحيط الذي له فيه قصص وروايات، وله الفضل بعد الله على ما هو عليه الآن من سمعة تجارية محمودة ومعلومة لمتجره، إلى وجوب إيقاف مسلسل الحرائق التي تتشكّل فصوله بين الحين والآخر مستبيحةً أساسات السوق وهيبته التاريخية، لكونه أقدم سوق تجاري في دول الخليج قاطبة.
مطالبات المحروس جاءت موائمة لما اتضح من معطيات بعد حريق سوق المنامة القديم، تتمثّل بتشكيل لجنة دائمة تكون محافظة العاصمة هي المسؤولة المباشرة عنها، تضمّ موظّفين من هيئة الكهرباء والماء ووزارة شؤون البلديات والزراعة ومن وزارة الصناعة والتجارة يقومون بالتفتيش الدوري على المحلات والتأكّد من وجود معايير السلامة فيها، و تفقّد حال التمديدات الكهربائية الخاصة بكل محل على انفراد، فضلاً عن مطابقة السجل التجاري ساري المفعول بالنشاط التجاري القائم، ناهيك عن رأيه في ضرورة منع وضع المظلات القماشية فوق كل متجر من متاجر السوق، فهي من أسهمت إلى حد كبير في توسّع نطاق الحريق وتمدده بشكل سريع ليطال العديد من المحلات التي اختفت معالمها الحقيقية بسببه، عطفاً على ذلك، ضرورة العمل بقانون إشغال الطريق الذي يمنع أي مخالفات قد يمارسها بعض التجار المصممين على وضع بضائعهم خارج محلاتهم، وفي ذلك اعتداء على حرمة الطريق وسلامة المارّين فيه.
المحروس لفت إلى أن اللجنة الأهلية بتطوير السوق لا يمكن بمفردها أن تقف على مجمل المواضيع المتعلقة به، مشيراً إلى أهمية تكاتف جميع الجهات الرسمية المعنية وتفعيل عمل لجنة تطوير السوق التي تشكّلت بناء على توجيه من قبل صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، لتتولى مهامها وزارة التجارة والصناعة جنباً إلى جنب مع غرفة تجارة وصناعة البحرين، وبميزانية من قِبَلهما تصل إلى 12 مليون دينار مخصصة لتطوير سوق المنامة والنهوض بمرافقه واستحداث الخدمات المناسبة فيه.
وفي مقام الحريق وتبعاته، أوضح المحروس إلى ضرورة التعامل بواقعية مع أجزاء المشكلة، وما أفضت إليه من صورة توسدها السواد لجزء من جسد السوق بفعل اشتعال النيران بالعديد من محلّاته، والتي تقدّر خسائرها بناء على حسابات القلم والورق بما لا يتجاوز مليوني دينار حسب قوله، وذلك استناداً على أقوال أكثر من 55 من أصحاب السجلات التجارية ومالكي العقار الذين قدّموا تقديرات لحجم فقدِهِمْ المالي.
أما فيما يختص بمنح القروض الحسنة للمتضررين من الحريق، فقد اقترح المحروس مفاتحة بنك البحرين للتنمية الممول الفعلي للتجار وللمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وحتى غيره من البنوك لمنح قروض لأصحاب المحلات التجارية، على أن يتكفّل صندوق العمل «تمكين» بدفع الفوائد المترتّبة عليه، بالإضافة إلى ما يتعلّق بمالكي العقارات المتضررة بفعل الحريق الراغبين في بناء ما تدمّر من منشآتهم وما يلحقه من دفع لرسوم الكهرباء والماء والتراخيص الحكومية الواجبة لقيامها، وذلك إما من خلال منح القرض بقيمته المالية بالكامل، أو أن يتكفّل صاحب العقار بدفع نصف المبلغ، والنصف الآخر يتحمّله بنك البحرين للتنمية وأي بنك آخر، على أن تكون طريقة السداد من قبل المقترض يدفعها بنسبة 50% من قيمة إيجار عقاره إلى حين سداد القرض بشكل نهائي.
سوق المنامة يرتعد خوفاً
على قيمته التاريخية
إلى ذلك، أكّد نائب رئيس اللجنة الأهلية لتطوير سوق المنامة القديم، صاحب مقهى النامليتي محمود النامليتي، والذي حالف محلّه الحظ الجيّد بوجوده على بُعد 80 متراً من التهام النيران للمحلات القريبة منه، أن سوق المنامة القديم هو سوق عريق، كان ولا يزال محط أنظار واهتمام السيّاح من داخل البحرين وخارجها، ليرتاده المواطن والمقيم والسائح الخليجي والزوّار من باقي دول العالم.
وبيّن، أن السوق كان يضمّ جميع الدوائر والوزارات الرسمية وما زال البعض منها لها مكاتبها الخاصّة، وهو ما برح يُعتبر نقطة انطلاق البضائع على اختلاف أنواعها إلى جميع مراكز التسوق في البحرين، مشيراً إلى أن معظم تجّار البحرين من الآباء والأجداد وحتى الأبناء قد مضوا في بحر التجارة من خلاله، موضحاً ما كان يحتويه السوق وحتى يومنا هذا من دواعيس وشوارع لها مسمياتها القديمة المعروفة والتي ترتبط بها إلى الآن، مثل شارع الجراشية، وداعوس سوق الحدادة، وسوق الصفافير الخاص ببيع التنك، وسوق المقاصيص الذي يحتوي على مقتنيات وحاجيات عتيقة، فضلاً عن سوق الذهب الذي يستقطب بسمعته العالمية الراغبين في شراء المعدن الأصفر، بالإضافة إلى أسواقٍ لبيع المواشي والطيور والأسماك والخضراوات، ناهيك عن شارع البز الذي تكثر فيه محلات بيع الأقمشة، إلى جانب سوق الصراريف الذي يعج بمحلات تصريف العملات والتي يزيد عمرها على 80 سنة، وصولاً إلى ما يحتويه السوق على مقاهي شعبية اشتهرت بقدمها وعراقتها وهي ماكثة في مكانها من قبل 60 عاماً.
وطرح النامليتي جملة من الحلول والمقترحات غير المادية، جاءت في مقدّمتها تقديم تسهيلات لأصحاب المحلات التجارية التي التهمها الحريق، تتمحور حول إعفائها من رسوم الكهرباء والماء لفترة معينة، وإعفاء أصحاب المحلات من رسوم إقامة الأشخاص العاملين لديهم، ومنحهم إعفاءً كذلك فيما يخص برسوم ترخيص نشاطهم، وصولاً إلى إعطائهم قروضاً حسنة من قبل صندوق العمل (تمكين)، أو من بنك البحرين للتنمية.