حنان الخلفان

«اللي ما جرب المجرب، عقله مخرب»، مثل شعبي تتردد أصداؤه في مواقف لا تخلو من الواقعية، وكأنه ينطبق تماماً على بعض تجارب المواطنين اليومية مع الأنظمة الرقمية الجديدة. مع كل التوجهات نحو التحول الرقمي الذي يُفترض أنه يبسط الإجراءات ويقلل الانتظار، تظل التحديات قائمة في بعض المواقع التي يُعتمد فيها على هذه الأنظمة لتحقيق راحة الأفراد.

كان هدفي في ذلك اليوم بسيطاً ومباشراً وهو إنهاء إحدى الخدمات المتعلقة ببعض المستحقات. توقعت أن تكون العملية سلسة، خاصةً بعد وعود متكررة بأن النظام الإلكتروني الجديد سيحقق نقلة نوعية في سهولة التعامل، ولكن ما واجهته كان بعيداً عن كل تلك التوقعات المتفائلة.

فور وصولي، لاحظت أجواء من التوتر ووجوهًا مليئة بالإحباط بين الحضور. كان المراجعين يتنقلون بين الموظفين، وجوههم تملأها علامات الإرهاق والاستفهام حول أسباب تعطل المعاملات. ظننت أن العملية ستكون سريعة، ولكنني فوجئت بطلب غير متوقع: كان عليّ تقديم كشوف الراتب بشكل يدوي، رغم أنه من المفترض أن تكون جميع البيانات مخزنة إلكترونياً. وجدت نفسي أتساءل: ما معنى التحول الرقمي إذا كنا ما زلنا نحتاج إلى التعامل الورقي في معاملات بسيطة؟

خلال انتظاري، بدأت أتحدث مع بعض المراجعين، وسمعت قصصاً مليئة بالاستياء من بطء الإجراءات وغياب المرونة في النظام. التقيت برجل مسن، تجاوز الستين من عمره، وأخبرني بمرارة أنه لم يصل إلى نتيجة بالرغم من زيارته لأكثر من ستة أشهر. كانت ملامحه الحزينة تعبّر عن حجم المعاناة التي يعيشها، إذ يعتمد كليًا على هذه الخدمة، بدا واضحاً أن المشكلة لم تعد مجرد تحدٍ تقني، بل باتت عبئاً يومياً على المراجعين، خاصة أولئك الذين يحتاجون للدعم المستمر من كبار السن أو الحوامل، ولا يمتلكون رفاهية الانتظار الطويل.

وسط هذه التحديات، كان هناك بارقة أمل تتجسد في موظف عند كونتر رقم (8)، الذي تعامل معي بلباقة واحترام كبيرين. هذا الموظف بذل جهداً واضحاً لحل مشكلتي رغم عدم معرفتي به، إلا أنني راقبته وهو يحاول بجدية مساعدة من هم قبلي ومن بعدي، وتفانى في تقديم الخدمة لكل من احتاج إليها. كان تعامله يعبّر عن التزام حقيقي وحرص على راحة الجميع، مما جعله مثالاً يحتذى به للموظف المثالي الذي يسعى جاهداً لتقديم أفضل خدمة ممكنة، بغض النظر عن الظروف أو الضغوط الخارجة عن إرادته، وأبدى التزاماً استثنائياً ومسؤولية عالية، مما جنبني العودة مرة أخرى إلى المقر. كان مثالاً يحتذى به للموظف الذي يحمل هموم المواطن ويسعى إلى تقديم أفضل خدمة في ظل الظروف المتاحة.

وللحظة، وجدت نفسي أفكر: لو كان في كل مؤسسة حكومية أو خاصة موظف بروح موظف كونتر رقم «8»، لكانت الحياة أكثر سلاسة بكثير، فوجود مثل هؤلاء الموظفين يسهم في بناء الثقة بين المراجع والمؤسسات، ويحول كل تجربة تعامل إلى رحلة مريحة تستحق التقدير، لتصبح الخدمة العامة كما يجب أن تكون، جسراً لخدمة المواطن وتلبية احتياجاته. إن روح الالتزام التي يجسدها هذا الموظف تلبي التطلعات المستقبلية لتطوير الخدمات العامة والخاصة.

أثناء مغادرتي، تذكرت تجربة وزارة الصحة في تقديم خدمات الرعاية المنزلية للمسنين، وهي خطوة رائدة لاقت استحسانًا محليًا ودوليًا، ووفرت على المرضى وكبار السن عناء التنقل والانتظار. تساءلت: لماذا لا تتبنى الجهات المعنية نموذجاً مشابهاً؟ ألن تكون خدمة متابعة المستحقات عن بعد، خاصة لكبار السن، خطوة مفيدة توفر الجهد والوقت وتضمن للمواطنين كرامتهم في الحصول على حقوقهم؟

إن التحول الرقمي الحقيقي يجب أن ينطلق من رغبة حقيقية في تسهيل حياة الناس، خاصة الفئات التي تحتاج إلى دعم خاص. ليس من المعقول أن نعلن عن أنظمة رقمية ونبني آمالاً كبيرة حولها، ثم نجد المراجعين عالقين في طوابير طويلة، مطالبين بإجراءات ورقية قديمة. التحول الرقمي ليس مجرد واجهة تقنية، بل يجب أن يكون تغييراً جوهرياً يراعي احتياجات الناس ويضع راحتهم في المقام الأول.

وبصراحة.. يبقى السؤال: هل يمكن أن يتحقق هذا التحول الرقمي بالشكل الذي يلبي احتياجات المواطن؟