حنان خلفان


الحياة تحمل في طياتها قوانين تبدو وكأنها غير قابلة للكسر، فمنذ أن يولد الطفل يبدأ الآباء في رسم المستقبل له، يرونه أملهم الذي يكبر أمام أعينهم ليكمل مسيرة الحياة من بعدهم ويحمل أسماءهم وتكبر عوائلهم من أجيال إلى أجيال أخرى قادمة، ولكن عندما يحدث العكس في دورة الحياة الطبيعية، ويختطف الموت الابن قبل الأبوين، تصبح تلك القوانين عاجزة أن يصدقها العقل ونعجز عن تفسير هذا التبدل، إنه ألم لا يشبه أي ألم، وجروح لا تندمل بسهولة، فتجد الأسرة نفسها أمام واقع يقلب موازين الحياة ويترك أثراً وحزناً لا يمحوهما الزمن.

في مملكة البحرين، عاش أهلها مؤخراً لحظات حزن عميقة بفقد اثنين من شبابها المتميزين الذين تركوا أثراً لا يُمحى في القلوب الأول، الدكتور يوسف محمد، الذي كان رمزاً للعطاء والتفاني، غادر الحياة فجأة، تاركاً وراءه أباً وأماً مكلومين، وزوجة وأبناء يحملون ذكراه ويفتقدونه في كل لحظة. والثاني، الشاب عيسى البوعركي، الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، والذي كان في مقتبل حياته بحادث في وسط البحر، محملاً بالطموحات والآمال، رحل أيضاً ليترك جرحاً غائراً في قلوب أهله وأصدقائه وكل من عرفه.

الموت في هذه الحالة ليس مجرد غياب أو فراق، بل هو صدمة حقيقية تضرب في صميم الروح. فالآباء الذين يبنون حاضرهم ومستقبلهم على وجود أبنائهم يجدون أنفسهم فجأة أمام فراغ كبير، وعجز عن تقبل فكرة أن ابنهم الذي كان يمثل الحياة نفسها قد رحل عنها. هذا النوع من الفقد يترك تساؤلات يصعب الإجابة عنها ويخلق حزناً عميقاً لا يمكن وصفه بالكلمات.

هذا الفقد لم يكن مجرد حادثة عابرة، بل كان لحظة صادمة لكل من تابعها، حيث ارتجف الحزن في قلوب أهل البحرين جمعاء. إنه تذكير قاسٍ بهشاشة الحياة، وكيف يمكن أن تتغير في لحظة واحدة دون سابق إنذار، ورغم أن الصدمة تكون شديدة، إلا أن الإيمان بالله يعطينا القوة لنواجه ما يبدو مستحيلاً. وسط هذه المشاعر الجارفة، يأتي الإيمان ليمنح الإنسان القدرة على التحمل. القرآن الكريم يذكرنا بحقيقة الابتلاء في الحياة، حين يقول الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» (سورة البقرة: 155).

هذه الكلمات عزاء أن يلهمهم الله الأجر والصبر والقوة ولكن ليست مجرد أي عزاء، بل هي دعوة للتأمل في حكمة الله ورحمته، وفي أن هذا الابتلاء، مهما كان شديداً، يحمل في طياته فرصة للصبر والاحتساب. فمن يجد في نفسه القدرة على مواجهة هذا الألم بالإيمان والتسليم، سيجد عزاءً أعمق يتجاوز حدود الدنيا.

الموت في هذه السن الصغيرة لا يُعتبر أمراً طبيعياً. إنه يعيدنا إلى جوهر الحياة والموت، ويجعلنا ندرك أن الرحيل ليس له عمر محدد. ولكنه أيضاً يمنحنا فرصة لتأمل أعمق في حياتنا، لنعيشها بوعي أكبر، ولنكون أكثر استعداداً لاستقبال ما تخبئه لنا الأقدار. رحيل الدكتور يوسف محمد والشاب عيسى البوعركي ليس مجرد ذكرى مؤلمة للشعب البحريني، بل هو دعوة لكل من عرفهما أن يخلد ذكراهما بما كانا يمثلانه من قيم العطاء والحب والأمل، نعم قد يرحل الأبناء بأجسادهم، لكن أرواحهم تبقى حية في قلوب من أحبوهم، لتلهمنا الصبر والتمسك بالأمل، ولتذكرنا بأن الحياة رغم قسوتها تستمر.

وبصراحة.. الحياة ستستمر رغم رحيلهم، لكنها تحمل في طياتها ندوباً لا يمحوها الزمن. والأمل في اللقاء الأبدي والتسليم بحكمة الله يصبحان بلسماً لجراح القلوب المنكسرة، ومرشداً لنا لنستمد من الحزن قوة ومن الذكرى معنى، ورغم أن الموت قد يأخذ الأحبة، إلا أن أرواحهم تظل حية في كل لحظة، في نبض كل دعاء، وفي أثرهم الذي لا يزول. هكذا، تصبح الذكرى عهداً للصبر، والحياة بعدهم رسالة حب نكمل بها ما بدؤوه، ويظل الوطن قوياً يحتضن أبناءه، متشابكاً بروابط العزاء والإيمان، ليبقى الحزن مزيجاً من الفقد والامتنان للذكرى التي لا تغيب. رحم الله أمواتنا وأمواتكم أجمعين.