عبير قباني

«من حكم في ماله فما ظلم».. مثل سمعته وسمعه معظم من يقرأ هذه الحروف، وأتفق على صحته وصدقه مع معظم من سمعه.

نعم أنا حر في مالي، أنا من أجنيه وأنا من أنفقه وأوزّع منافذ نفقته وفق ما أرى ويحلو لي «من حكم في ماله فما ظلم». وبناءً عليه، من حكم في وقته فما ظلم، ومن حكم في صحته فما ظلم. أنا حر في وقتي أمضيه كيفما أحب، وحيثما أحب، ومع من أحب، أسهر كما يحلو لي وأستيقظ متى يحلو لي.

وأنا حر في صحتي، أتعامل معها كما أحب، أعتني بها بالطريقة التي أحب، وأتناول الطعام الذي أحب بالكمية والنوعية التي أحب. نعم قد يكون الذي حكم في ماله ووقته وعافيته لم يظلم أحد، وأقول «قد يكون» ولكن هل هو ضامن بأنه لم يظلم نفسه ؟؟؟؟

لِظلم النفس خَفاء وغطاء لا يِعيه ولا يدركه إلا من أنار الله بصيرته لحقيقة الاتزان.

تُعَرّف السرقة بأنها فعل سلب حق مادي أو معنوي لأحد الأشخاص من قبل شخص آخر. لقد سرق فلان مالي، سرق مجهودي، سرق عمري، سرق وقتي... إلخ، ولكن هل يُعقل أن يسرق الإنسان من ذاته، أن تسرق أنت من مالك، أن تسرق أنت من وقتك، من عافيتك وعمرك، هل يُعقل أن تسرق أنت، ما هو لك أصلاً؟!!

عزيزي القارئ، خذ برهة من الوقت قبل أن تكمل القراءة وأجب عن هذا السؤال، فحتمية الشيء تمنع حدوث السؤال.

نعم لقد وصل الحال بنا بأن نكون نحن السارق والمسروق، القاضي والمحامي والسجن والسجان ولماذا نحن هنا...؟؟؟

لقد ظننا خطأً بأن ما هو بين أيدينا ونملك حرية إدارته والتصرّف به كالوقت والعمر والمال والصحة هي أشياء نمتلكها ملكية كاملة، لكن الحقيقة بأن كل ما سبق هو أمانة استودعها الله بين أيدينا حتى يختبر حكمتنا وحسن إدارتنا وتصرّفنا لما استودع فينا من أمانات «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً» «الإسراء: 36». ولا يُسأل الإنسان ويحاسب عمّا يملك، وإنما يُسأل عما لا يملكه «وقفوهم إنهم مسؤولون». أكاد أجزم بأنك عزيزي القارئ تشعر كما لو أنك تقرأ تلك الآيات لأول مرة ومن منظور مختلف عما عهدته سابقاً.

تشعر المرأة بأن جارتها الثرثارة التي استغرقت مكالمتها لأكثر من ساعة وهي تتحدث عن تفاصيل خلافها مع زوجها. قد تشعر تلك المرأة بأن جارتها تسرق من وقتها عند تكرار هذا الحديث كل يوم، وقد يشعر الرجل الذي يصطحبه صديقه إلى السوق ويجعله يدفع ثمن مشتريات لا ينتفع بها ذاك الرجل، بأن صديقه يسرق ماله. وقد يشعر المبدع بأن أحد معارفه أو أحد أصدقائه الذين يقللون من أهمية إبداعه ويدفعونه للتخلي عنه، بأنهم يسرقون إبداعه، والأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى في هذا السياق. ولكن.. ماذا عن المرأة التي تسرق هي من وقتها في إمضاء معظم يومها وراء شاشات المنصات الإلكترونية أو المسلسلات التلفزيونية؟؟

ماذا عن الرجل الذي يسرق من ماله عندما ينفقه على ما لا ينتفع به جسداً أو نفساً أو عقلاً أو روحاً؟؟

ماذا عن المبدع الذي يسرق إبداعه بنفسه عندما يقتله ويدسه في التراب خوفاً أو خجلاً أو ضعفاً؟؟

إن النظر إلى الحياة بعيون تتجه للآخرين، قد يحمل الكثير من المفاجآت والصدمات وعلامات التعجب والاستفهام، لكن النظر إلى الحياة بعين تتجه للداخل، داخل ذاتك أجزم أنه يحمل أكثر وأكثر وأكثر من المفاجآت والصدمات، وبرغم شدة وطأة مفاجأة النظر إلى الداخل إلا أن تلك العين تتحول إلى كلمة سر وبطاقة خضراء لتيسير العبور من معظم الطرقات التي ظننا أنها عصية على المرور وتفتح كل الأبواب التي ظننا ألا مفتاح لها تصديقاً لقوله تعالى «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، «الرعد: 11».

فلنحاول أن نرى كل قيد يقيدنا الآن هو حكم صدر علينا لأننا لم نحسن ائتمان الأمانة في الجسد وما يدخل إليه، وفي العقل وما يرد عليه، وفي النفس وما يصدر منها، وفي الوقت والمال وكيف تتم إدارتهما، وفي الفرح وكيف نسعى تجاهه، وفي الحزن وكيف نتعامل معه، وفي الخوف وكيف ندرك حقيقته، وفي الحياة وغايتها ومقصدها وكيف نفهمه. نعم لقد صدق من عنون أحد أفلام الزمن الجميل «يا عزيزي كلنا لصوص».

عبير قباني