د. سعود العماري

مهرجان "ريترو المنامة" هو فعالية مميزة تُقام في نسختها الأولى في الأماكن التراثية لسوق المنامة، بدءاً من باب البحرين شمالاً إلى داخل السوق القديم جنوباً. وهذا المهرجان يمثل امتداداً لنجاحات مبادرات ثقافية بارزة مثل "ليالي المحرق" و"القرية التراثية". في الواقع، تُعدّ هذه الفعالية الفريدة من نوعها فرصة ثمينة لإعادة إحياء بريق السوق القديم بكل ما يحمله من ذكريات جميلة وأهمية اقتصادية واجتماعية في تاريخ البحرين.

إن النجاح الكبير لهذه الفعالية والذي تحقّق بفضل جهود إبداعية مميّزة ودون تكاليف باهظة، يؤكد أن السوق القديم قادر على استعادة حيويته ونشاطه، حيث امتلأت أزقته بالزوار والحركة بشكل لم يشهده منذ سنوات طويلة. وفي هذا الإطار فإن إعادة تأهيل سوق المنامة لن تكون مجرد خطوة للحفاظ على التراث، بل استثماراً استراتيجياً يعزّز الاقتصاد المحلي بشكل كبير، ويوفر فرص عمل للمواطنين، ويعود بالنفع على أصحاب المتاجر والمشروعات الصغيرة الذين عانوا خلال العقد الماضي نتيجة انتشار المجمعات التجارية الكبيرة وتأثير جائحة كورونا.

ما يميز "ريترو المنامة" بشكل خاص هو الأجواء الرائعة التي عاشها الزوار، من عائلات وأطفال وزوار محليين وخليجيين وأجانب، حيث بدا واضحاً أن الزوار مستمتعون بتجربة فريدة تجمع بين التسوق في دكاكين السوق وتناول الطعام في المقاهي والمطاعم الشعبية وسط أجواء السوق القديم. الجميل أن الابتسامات التي علت وجوه الجميع، صغيراً وكبيراً، قد عكست السعادة التي أضفاها المهرجان بعد أن أعاد الحياة إلى شوارع السوق وملأها بالحيوية والنشاط. إن هذا النجاح يثبت أن هذه المساحات التراثية تحمل إمكانيات هائلة لجذب الجماهير وتعزيز السياحة، خاصة في الأماكن القديمة التي تزخر بها هذه الجزيرة، بما تحويه من أحياء جميلة تتميز بطابعها المعماري الفريد وأهلها الطيبين.

وأود أن أشير في هذا السياق إلى أنه بناءً على ورقة بحث متواضعة أعددتها مؤخراً حول إعادة تأهيل سوق المنامة، فإن هذا المشروع لن يكون مجرد وسيلة لإحياء التراث فحسب، بل إنه سيمثل خطوة استراتيجية لتجديد البنية التحتية بما يتناسب مع احتياجات العصر. كما سيكون مكملاً لمشروعات النقل الحديثة التي تخطط الدولة لإنشائها، مثل المترو ووسائل النقل الجماعي، بالإضافة إلى إنشاء مواقف إضافية للسيارات وتوفير مرافق عامة متطورة. ومعلوم أن هذه التحسينات ستضمن تجربة مريحة للزوار، مما يعزّز من جاذبية السوق ويحوله إلى وجهة سياحية مثالية.

كما أن تحسين البنية التحتية بشكل جذري، بما في ذلك شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، بالإضافة إلى تحديث واجهات السوق وإعادة تصميمه بأسلوب يعكس الهوية البحرينية، سيُسهم في جذب المزيد من السياحة إلى البحرين، بما يعود بالنفع على المحلات التجارية ويساعد في تنوع الصناعات والخدمات البحرينية وتعزيز الاقتصاد المحلي.

إن الحفاظ على الطابع التراثي لسوق المنامة مع دمج عناصر معمارية حديثة ومستدامة سيجعل منه نموذجاً ناجحاً للسياحة الثقافية، كما شهدنا في مشاريع مماثلة لإعادة تأهيل الأحياء القديمة مثل الرياض القديمة والدرعية في المملكة العربية السعودية، أو حي الفهيدي التاريخي في دبي.

لقد أثبت النجاح الباهر لمهرجان ريترو المنامة أن هذا النوع من الفعاليات له أثر إيجابي عميق، ليس فقط على الاقتصاد المحلي فحسب، بل على المجتمع بشكل عام، حيث يشجع على الابتكار، ويوفر تجربة سياحية فريدة. فلقد أبدعت البحرين هذا العام في إبراز تاريخها وماضيها الجميل من خلال تسليط الضوء على تراثها الغني، بما في ذلك الأزياء التقليدية الجميلة، والحرف اليدوية، والفنون، والأغاني التراثية، والمأكولات الشهية. هذا التراث يعكس ارتباطاً عاطفياً عميقاً بين البحرينيين ووطنهم، حيث يحمل في طياته طعماً من النوستالجيا وحنيناً راسخاً إلى الماضي وعبقه المميز الذي يظل محفوراً في الوجدان. والأجمل من ذلك هو رؤية الأشقاء الخليجيين يشاركون البحرينيين هذا الشعور نفسه، بالإضافة إلى استمتاع الأجانب بالعادات والتقاليد البحرينية واحتفالهم بجمالها الفريد.

وهذا يشكّل دليلاً واضحاً على نجاح مثل هذه الفعاليات التي تعزز الترابط بين الماضي والحاضر. كما تؤكد أهمية مواصلة تنظيمها وما يشابهها بشكل دوري، ليصبح سوق المنامة وجهة مميزة يقصدها الجميع، سواء من المواطنين والمقيمين وكذلك السياح. ما زاد من نجاح الفعالية هو الدعم الكبير الذي حظيت به من القيادة والمسؤولين، فلقد رأينا معالي الشيخ سلمان بن خليفة آل خليفة وزير المالية والاقتصاد الوطني وسعادة الدكتور رمزان النعيمي وزير الإعلام، وغيرهم من المسؤولين يتجولون في السوق، ويتفاعلون مع الزوار، ويؤكدون على اهتمام المملكة بالتراث الثقافي والتنمية السياحية.

في الختام، إن إعادة السوق القديم إلى مجده السابق لن يقتصر على الحفاظ على التراث فقط، بل سيُسهم بشكل كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تطمح إليها المملكة. وعليه نأمل أن يكون نجاح "ريترو المنامة" انطلاقة لمشاريع أكبر، تركز على إعادة تأهيل سوق المنامة بالكامل، ليس فقط من أجل إحياء تراثه، بل لجعله مركزاً نابضاً بالحياة يساهم في تعزيز مكانة البحرين كوجهة سياحية وثقافية رائدة، فهذه المبادرات تُثبت أن الإرادة والتخطيط السليم كفيلان بتحقيق إنجازات استثنائية تخدم الوطن والمواطن.

* كاتب وباحث مهتم بالتراث العمراني في منطقة الخليج العربي