بقلم: هالة محمد جابر الأنصاري

بهذه العبارة التي يخشاها كل ابن وابنة، طوال حياتهم، مهما كانت حالة والديهم الصحية، ومهما بلغ بهم العمر عتياً، تلقيت خبر رحيل «بابا محمد»، رحمة الله عليه، كما يحب أن يسميه أحفاده.

أما رحيله.. والدي ومعلمي وقدوتي، فهو رحيل صعب بكل ما تعنيه الكلمة من هول وفجيعة، وما يتركه من حزن ثقيل وألم عميق لا يحس به إلا الموجوع بقضاء الفقد، ولا اعتراض على أمر الله في ذلك.

وبرحيله اُقتلعت شعرة من فؤادي.. أبي الذي كان يتباهى ببناته الثلاث، هالة وميساء وريم، ولم يُشعرنا يوماً بأنه يفتقد الابن الذكر الذي سيحمل اسمه من «بعد عينه»، وكان يمزح مع السائلين عن الابن المنتظر، برده المأثور: أولادي هم مؤلفاتي! أما نسلي فهم بناتي، ونسأل الله، بأن نكون قد قمنا بواجبه كما يُرضي الله ويُرضيه عنا.

وبفقده نواجه رحيلاً صعباً.. لأب حنون، لم يعترف بتربية الترهيب بالصراخ والانفعال، فلا نسمع وقت التأديب إلا ذلك الحديث الهادئ بنبرة تجمع بين الحكمة والحزم، والغريب، بأن ذلك الهدوء المهيب كان يكفي لنقسم بأغلظ الأيمان بأن لا عودة لنا لذلك الخطأ.

.. برحيله فقدنا أباً قاسى الحياة مبكراً ولم يعرف فيها معنى الترف، وكان يخشى علينا من الوقوع في مصيدة الاستهلاك المؤدي إلى خراب الديار، ومنه تعلمنا كيف نشد الحزام ونراعي ظروف البدايات التي إن صلُحت أساساتها ثَبُت بنيانها الأسري، كما أنه لم يتردد يوماً، بالوقوف بجانب أزواجنا، نحن الثلاث، وكأنهم من صلبه، مقدماً لهم كل أشكال الدعم ليعينهم في انطلاقة الشباب.

.. هو رحيل صعب لإنسان اعتنق معاني التسامح ورحابة النفس وحلو اللسان ورحمة القلب، وحذرنا مراراً من «كبائر القول دون الفعل»، ومن الظلم المؤدي إلى الظلمات على صاحبه في يوم لا ريب فيه، ودرّبنا، بالقدوة الحسنة، على احترام قيمة وجوهر الإنسان.. فالجميع إخوة، ولا فرق بين أصل ولا فصل، ولا مذهب ولا ملة.

ورأيت بأم عيني كيف تجاوز أشد الخصومات بشهامة النبلاء وبعقلانية العلماء، فكان شعاره في مواجهة خصومه: لا يُفسِد الخلاف ولا الاختلاف لأي ود قضية، أما الإخلاص لأصدقائه فتلك حكاية أخرى من حكايات الوفاء الأبدي لأصحاب العمر.

.. هو رحيل صعب لزوج قدّس حياته الزوجية وتصدّى لكل ما ينغص عليها، فكان، رحمه الله، حاضراً بأريحيته وسعة صدره في تفاصيل شؤونها اليومية، فلا يغفل عن مناسبة ولا يتجاهل ظرفاً، مهما كانت انشغالاته، وكانت «أم هالة»، بالنسبة له، ليست مجرد رفيقة درب، بل عمود البيت و«مرد الراس» في كل صغيرة وكبيرة، وهي تخوض معه مر الحياة وحلوها، ومعها قلَب كل شقاء وشدة إلى يسر وانشراح وأمل بالقادم الجميل، الذي كنا نراه في عيونهم قبل أن يتحقق على أيديهم، بتوفيق الله وكرمه.

.. هو رحيل لابن البحرين الذي أحبها بكل جوارحه، وكان يشتاق إليها وهو على أرضها، يشتاق لأصالة ماضيها وتاريخها العتيد، ولتراثها المرتبط بكفاح والديه، ولطالما دافع عن عروبتها وتضحيات قادتها وأبنائها، ونبه في كل مناسبة، إلى مكانة البحرين كمهد لأهم الحضارات، والنبع العذب لخلود الفكر وتدفق العلم والمعرفة والثقافة الإنسانية، كما اعتبرها المصنع المهذب لأنبل الأخلاق والقيم وأسمحها على الإطلاق.

محمد الأنصاري كان يعشق «غادة الصحراء».. ويتنفس ريحة أسيافها، وفي كل استراحة لقلمه المحارب.. يفترش منديله على رمالها ليتأمل لمعة شواطئها، ولينصت لمواويل «الهولو واليامال» الآتية من أعماق بحارها، وعلى أنغامها، غاص بدوره باحثاً عن الكلمة والحقيقة التي من أجلها يحيا الإنسان.

رحمة الله عليك يايبه..

وجزاء والدينا جميعاً أعلى مراتب الجنان..