حين أنظر إلى واقع مجتمعاتنا العربية والعالمية، أجد أن العنف أصبح حاضراً بقوة في تفاصيل حياتنا اليومية: في البيت، في الشارع، بل وحتى داخل المدارس والجامعات. لم يعد الأمر مجرد سلوك فردي عابر، بل تحول إلى ظاهرة مقلقة تستدعي أن نقف عندها بجدية، ونسأل أنفسنا: لماذا يزداد العنف بهذا الشكل؟ وما الذي يدفع إنسانًا إلى أن يتحول من كائن مكرَّم إلى مصدر أذى لنفسه ولغيره؟
أولًا: ضغوط اقتصادية واجتماعية
أكاد ألمس بنفسي كيف أن الفقر والبطالة وقلة الحيلة تضع الإنسان في دائرة من القلق والاختناق، فيبحث عن متنفس ولو كان خاطئًا. قال تعالى: "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًاً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" [الزخرف: 36]. ومع غياب الصبر والرضا، ينقلب الضغط الداخلي إلى غضب وعدوان.
ثانيًا: ضعف دور الأسرة
الأسرة هي الحضن الأول الذي نتعلم فيه معاني الرحمة والسكينة، كما قال سبحانه: "وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجًۭا لِّتَسْكُنُوٓا۟ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً" [الروم: 21]. لكن حين يغيب هذا الدور، ويترك الأبناء لفراغ الشارع أو لشاشات الإنترنت، تتشكل شخصياتهم على صورٍ مشوّهة قد تقودهم إلى العنف.
ثالثًا: تأثير الإعلام ووسائل التواصل
أصبحت صور الدماء والمطاردات والألعاب العنيفة شيئًا مألوفاً في حياتنا. ومع التكرار، يبهت الإحساس بخطورة العنف، ويغدو حلاًّ عادياً للمشكلات. والقرآن ينبهنا دائماً إلى أثر ما نراه ونسمعه: "إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولاً" [الإسراء: 36].
رابعاً: غياب القانون والردع
حين يختفي العدل، ويشعر الظالم أنه بمنأى عن العقوبة، يتجرأ على المزيد من الإيذاء. والقرآن يقرر قاعدة واضحة: "إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَانِ" [النحل: 90]. فالعدالة ليست ترفاً، بل ضرورة لحفظ النفس والمجتمع.
خامساً: أزمات الهوية والقيم
هناك من يفتقد الانتماء، أو يعيش صراعاً داخلياً بين قيمه وما يراه حوله، فيلجأ إلى العنف ليقول: "أنا هنا". ولو تأمل هؤلاء لوجدوا في قول الله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" [الإسراء: 70] ما يغنيهم عن البحث عن الاعتراف عبر إيذاء الآخرين.
ولأن العمل مطلوب لوقف العنف فهو ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة لاختلالات يمكن إصلاحها. علينا أن نعيد للأسرة دورها، وأن نربي أبناءنا على الرحمة لا على القسوة، وأن نضبط ما يُبث عبر الإعلام، ونُعلي من شأن القانون والعدل. إن بناء مجتمع متماسك يبدأ من إحياء القيم القرآنية التي تدعو إلى التسامح، قال الله تعالى: "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ" [الشورى: 40].
فبالعفو والإصلاح، لا بالعنف والانتقام، نستطيع أن نعيد لحياتنا إنسانيتها.