لم يكن اليوم عادياً كما بدأ، إذ تحوّل فجأة إلى مشهد استثنائي داخل مستشفى السلمانية الطبي، عندما اندلع حريق في الطابق الثاني من المبنى. أصوات الإنذار اخترقت المكان، وارتسمت على الوجوه علامات القلق، فيما هرع المرضى والزوار بقلوب مضطربة، يبحثون عن طمأنة وسط ارتباك اللحظة. لم يكن المشهد مجرد حريق عابر، بل اختباراً للجاهزية ورسالة عن معنى المسؤولية حين تداهمك الأزمات بلا موعد.
كنت هناك، ورأيت بأم عيني كيف وصل رجال الإطفاء في دقائق معدودة، بخطوات واثقة ووجوه تحمل الجدية وقلوب يكسوها الإصرار. لم يتركوا للنيران فرصة لفرض حضورها، بل أحاطوا بالمكان من كل اتجاه، واستخدموا خبرتهم ومعداتهم لاحتواء اللهب بسرعة لافتة. أعادوا المكان إلى حالته الطبيعية في وقت قياسي، وكأنهم يكتبون أمامنا درساً في الانضباط والجاهزية. هؤلاء الرجال، الذين يعملون بصمت بعيداً عن الأضواء، هم الجنود المجهولون الذين يسهرون على حماية الأرواح والممتلكات، ويستحقون أن نرفع لهم القبعات احتراماً وتقديراً.
وفي الجناح 65، كان المشهد مختلفاً لكنه لا يقل بطولة. أظهر الطاقم الطبي احترافية عالية في التعامل مع الموقف، فلم يتوقفوا عن أداء واجبهم لحظة واحدة، بل واصلوا تقديم الرعاية للمرضى بطمأنينة وثبات. كانوا يهدّئون المخاوف، ينظّمون الغرف، ويهتمون بأدق التفاصيل وكأن شيئاً لم يحدث، رغم أن الحدث كان كفيلاً بزرع الرعب في النفوس.
لقد لمست ذلك عن قرب، ورأيت كيف اعتنوا بعمتي المريضة هناك، سائلةً الله أن يشفيها ويشفي جميع مرضى المسلمين. لم يتوانوا عن تقديم أي خدمة تحتاجها، ولم يُظهروا إلا التفاني والإخلاص. كل كلمة طمأنة، وكل ابتسامة إنسانية كانت بمثابة دواء يخفف القلق قبل الألم. لم يكن اهتمامهم مجرد أداء وظيفي، بل إحساساً إنسانياً صادقاً جعل المرضى يشعرون أنهم بين أيدٍ أمينة لا تعرف التخاذل. ومن هنا، لا يسعني إلا أن أرفع لهم كلمة شكر من القلب، وأُشيد بجهودهم التي تجسد رسالة الطب في أسمى معانيها.
ومع كل ذلك، لا يمكن أن نغفل دور الدفاع المدني الذي واجه ألسنة اللهب بشجاعة وبراعة، جنباً إلى جنب مع الكادر الطبي الذي واجه القلق بطمأنة ورعاية. كلاهما شكّل جداراً منيعاً أمام الخطر: الأول سيطر على النار، والثاني احتوى الخوف، وفي النهاية جسّد الاثنان معاً معنى الوطنية في أبهى صورها.
وعلى امتداد عقود، ظل المستشفى شاهداً على تطور الخدمات الصحية في البحرين، حيث تعاقبت الأجيال الطبية والتمريضية والإدارية، كلٌ يضع بصمته في خدمة المرضى. لم يعد المكان مجرد مستشفى يستقبل الحالات الطارئة، بل أصبح مركزاً طبياً متكاملاً يضم أحدث الأقسام والتجهيزات، ويستند إلى كادر بشري مدرّب ومؤهل. الأطباء، الممرضون، الفنيون، والإداريون جميعهم يشكّلون منظومة متكاملة، تجعل من السلمانية رمزاً للرعاية الصحية الشاملة، وركيزة من ركائز الأمن الاجتماعي في المملكة.
ورغم وضوح هذه الصورة، ما زال البعض يجد في النقد السهل وسيلة لإبراز صوته. ينتقدون دون أن يروا تلك اللحظات التي يكون فيها رجال الدفاع المدني والكادر الطبي في مواجهة مباشرة مع الخطر، مقدمين أرواحهم ووقتهم وجهدهم في سبيل الآخرين. النقد البنّاء مطلوب، بلا شك، لكنه يفقد قيمته حين يتحول إلى وسيلة للتجريح أو التقليل من شأن من يقفون في الصفوف الأمامية.
إن ما شهدناه في ذلك اليوم لم يكن حادثاً عرضياً فحسب، بل كان مرآة تعكس قدرة البحرين على الصمود بفضل رجالها ونسائها المخلصين. كان رسالة واضحة بأن الوطن ليس مجرد جغرافيا أو مبانٍ، بل هو أيادٍ تمتد بالعطاء كلما حاول الخطر أن يقترب.
وبصراحة، أقل ما يمكن أن نقدمه نحن كمجتمع هو أن نكون أكثر إنصافاً، وأن نمنح التقدير لمن يستحق، بدل أن نختبئ وراء كلمات النقد التي لا تُشعل سوى فتيل الإحباط.
(ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله) حديث نبوي شريف – رواه أحمد وأبو داود والترمذي.