حسن الستري

  • • آل فهيد: الأنصاري صاحب مشروع فكري عميق كشف الذات العربية بلا رتوش أو أقنعة
  • • هالة الأنصاري: التدريس كان أيقونة حياته.. ومبادراته أسّست لرؤية تجديدية في الفكر
  • • حمزة: محاضر متميز جمع بين التاريخ والسياسة والشعر.. وأسهم في عولمة الفكر العربي
  • • مي بنت محمد: أول من وثّق ريادة الشيخ إبراهيم.. وترك بصمة خالدة في الذاكرة البحرينية
  • • البازعي: الأنصاري صوت فكري متفرّد.. جمع بين الالتزام الوطني والحراك الثقافي العربي

في أجواء احتفائية مفعمة بالوفاء للفكر وأهله، نظّمت جامعة الخليج العربي بالتعاون مع سفارة المملكة العربية السعودية في البحرين ودارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة، ندوة فكرية خُصّصت لاستذكار إسهامات المفكر العربي الراحل د.محمد الأنصاري، أحد أبرز أعلام الفكر العربي الحديث وعضو الهيئة الأكاديمية السابق في الجامعة.

وقد شهدت الندوة، التي أُقيمت صباح أمس الخميس في قاعة الأمير عبدالعزيز بن فهد في مركز الأميرة الجوهرة بنت إبراهيم البراهيم للطب الجزيئي وعلوم المورثات والأمراض الوراثية، كلمات مؤثرة لعدد من الأكاديميين والمفكرين، جسّدت تقديرهم لإرث الأنصاري الفكري ودوره الريادي في النهضة الثقافية العربية والخليجية.

بصمة لا تُنسى

ورحّب رئيس جامعة الخليج العربي د.سعد آل فهيد بالمشاركين في الندوة، وقال في كلمته: «نلتقي اليوم لنحيي سيرة أستاذ الجيل د. محمد الأنصاري -رحمه الله- الذي ترك بصمةً لا تُنسى في مسيرة الجامعة الأكاديمية والفكرية، وكان صاحب قراءات معمقة لقضايا النهضة وأسئلة الهوية وإشكاليات التراث والمعاصرة، مستنداً إلى منهج نقدي رصين ورؤية تحليلية متبصرة تستشرف المستقبل».

وأضاف أن الأنصاري تميّز بشجاعته الفكرية في الكشف عن الذات العربية بلا رتوش أو أقنعة، مشيداً بدعوته إلى تأسيس علم اجتماع مستمد من واقع التاريخ العربي، فضلاً عن سعيه الحثيث لبذر أفكار ابن خلدون وإعادة التاريخ إلى مساره الصحيح، ما جعل من مشروعه الفكري مصدر إلهام للأجيال من الباحثين في التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع.

وأشار رئيس الجامعة إلى أن د.الأنصاري شرف الجامعة أستاذاً لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر وعميداً لكلية الدراسات العليا، وأسهم في تعزيز رسالتها الفكرية والتنموية، تاركاً إرثاً علمياً وفكرياً متصل الحلقات يشبه لوحة فنية متكاملة العناصر.

وأكد آل فهيد أن الجامعة إذ تُكرّم اليوم أحد روادها، فإنما تُجدد عهد الوفاء وتؤكد التزامها الأخلاقي تجاه من أسهموا في مسيرتها. ووجّه شكره لسفارة المملكة العربية السعودية لدى مملكة البحرين بقيادة السفير نايف السديري، ودارة محمد جابر الأنصاري بقيادة هالة الأنصاري، مستشار جلالة الملك للشؤون الثقافية والعلمية، على تعاونهم في تنظيم الفعالية.

واختتم كلمته بالتأكيد أن هذه الندوة تأتي في إطار رسالة الجامعة الرامية إلى ترسيخ الوعي الفكري وتعزيز دور الثقافة في الخليج العربي.

رؤية تجديدية

وفي بداية الندوة، ألقت هالة الأنصاري كلمة مؤثرة استعرضت خلالها ملامح مسيرة والدها الفكرية والإنسانية، وقالت إن والدها انطلق في رحلته الفكرية من رؤية تجديدية تستند إلى السنة النبوية والإثراء العلمي، مؤكدة أنه أسهم في تعزيز معادلة النجاح القائمة على التوازن بين المتطلبات التنموية والمحافظة على أمن واستقرار الشعوب. وأشارت إلى أن مساهماته الفكرية تمثل مصدر اعتزاز وتأثير في البحرين والمنطقة، بما تحمله من ثقافة عريقة ورؤية أصيلة.

وأضافت أن د.الأنصاري كان يعتبر التدريس أيقونة حياته، إذ شبه وجوده في قاعات الجامعة بـ«عودة السمكة إلى البحر»، حيث يجد في النقاش العلمي فضاءً رحباً للتفكير والإبداع، مشيرة إلى أن ذكريات العائلة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بهذه المسيرة، بدءاً من مرافقتهم له إلى الجامعة وصولاً إلى القصص اليومية التي كان يشاركهم تفاصيلها.

وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، ركّز د.الأنصاري على تطوير منهجيات تدريس قائمة على الحوار العلمي والفكر النقدي المستقل، جامعاً بين العلوم التقنية والعلوم الإنسانية بهدف تعزيز النظرة الإسلامية المستنيرة والانفتاح العقلاني نحو العالم. وقدّم من خلال مقرّر الثقافة الإسلامية منصة تفاعلية تحفّز التفكير المنهجي المستقل، مؤكداً ضرورة الموازنة بين الأصالة والحداثة.

كما أشارت هالة الأنصاري إلى المبادرات التي اقترحها والدها، ومنها إنشاء برامج للدراسات الحضارية ومراكز للدراسات المستقبلية الخليجية، تُعد تعبيراً عن شغفه بحماية المعرفة من التشويش والاختزال، وسعيه الدائم لتقديم رؤية علمية متجددة تخدم التعليم العالي وتدعم المسار المجتمعي.

وفي ختام كلمتها، عبّرت هالة الأنصاري عن امتنانها لكل من أسهم في تنظيم الفعالية، مؤكدة أن هذا الحدث يمثل بوابة لقراءة جديدة لتجربة والدها الفكرية التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من البحث والتحليل.

ترسيخ الثقافة العربية والإسلامية

من جهته، أكد د.رياض حمزة أن المفكر الراحل د.محمد الأنصاري، يُعد إحدى الشخصيات الفكرية البارزة التي أسهمت في ترسيخ الثقافة العربية والإسلامية في البحرين والمنطقة، مشيراً إلى أن مسيرته اتسمت بالجدية والالتزام الفكري، إلى جانب قربه من طلبته وزملائه.وقال د.حمزة: «لقد جمعتني بالدكتور الأنصاري علاقة أكاديمية وإنسانية امتدت لأكثر من ربع قرن في جامعة الخليج العربي، حيث عملنا معاً في مواقع مختلفة منذ منتصف الثمانينيات، وكان حريصاً على أن تبقى الجامعة منبراً للفكر والثقافة إلى جانب دورها العلمي».

وأشار إلى أن د.الأنصاري تولى عمادة كلية الدراسات العليا في الجامعة عام 1985، في الوقت نفسه الذي عُيّن فيه نائباً للرئيس، مضيفاً أن الراحل لم يكن ميالاً إلى المناصب الإدارية بقدر حرصه على التفرغ للتدريس والبحث العلمي، الذي اعتبره رسالته الأساسية في تكوين شخصية الطالب الجامعي. ونوّه حمزة بدور الأنصاري في إدماج الثقافة العربية والإسلامية ضمن مناهج جامعة الخليج العربي، رغم توجه غالبية طلبتها إلى التخصصات العلمية البحتة، لافتاً إلى أنه آمن بضرورة أن يتلقى الطالب جرعة فكرية متوازنة من مصادر أصيلة ومتنوعة، بعيداً عن الاقتصار على مرجع واحد أو أستاذ واحد.

وأضاف: «كان د. الأنصاري محاضراً متميزاً، يمزج بين التاريخ والشعر والسياسة واللغة بروح نقدية مرنة، ويثير في نفوس طلبته الأسئلة أكثر مما يقدم لهم الإجابات الجاهزة. وقد حرص على غرس ملكة التفكير النقدي لديهم، متأثراً في ذلك بأفكار ابن خلدون في قراءة أحوال الأمم وصيرورة الحضارات».

وتابع: «لم يكن د.الأنصاري يكتفي بالجانب الأكاديمي، بل كان منفتحاً على النقاش الفكري مع كبار المفكرين العرب، من أمثال محمد عمارة، وجورج طرابيشي، والسيد ياسين وآخرين، حيث خاض معهم سجالات فكرية عميقة أسهمت في بلورة أطروحاته وتطوير مشروعه الفكري».ولفت حمزة إلى أن د. الأنصاري لم يكتفِ بطرح أفكاره في الوسط العربي، بل عمل على نقلها إلى القارئ الأجنبي عبر مشروع ترجمة عدد من كتبه إلى اللغة الإنجليزية، مؤكداً أن هذا الجهد عكس إيمانه بأهمية إيصال الفكر العربي إلى العالمية، وإبراز مكوناته أمام من لا يجيد العربية.

وختم قائلاً: «لقد كانت سنوات العمل مع د. محمد الأنصاري سنوات ثرية أثرت تجربتي الأكاديمية والشخصية. فقد كان بحق مفكراً عملاقاً جمع بين عمق التحليل ورحابة الحوار، وأسهم في إشعاع جامعة الخليج العربي كمؤسسة أكاديمية متميزة في المنطقة».

رسائل ثمينة

من جهتها، أكدت رئيسة مجلس أمناء مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث الشيخة مي بنت محمد آل خليفة أن المفكر الراحل د. محمد الأنصاري، شكّل علامة فارقة في الحياة الثقافية والفكرية في البحرين والوطن العربي، مشيرة إلى أن علاقتها باسمه بدأت منذ الطفولة من خلال والدها، الذي كان يذكره دائماً بإكبار وإعزاز.

وقالت، خلال كلمتها في الندوة: «ارتبط اسم د. الأنصاري بذاكرتي منذ زمن بعيد، فقد كان والدي يحدثني عنه بكل تقدير، باعتباره أول من التفت إلى جدي الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، وسلط الضوء على دوره الريادي المبكر في الحياة الأدبية والثقافية في البحرين. ففي عام 1967 حقق كتاباً عنه، وكان ذلك أول عمل يوثق مكانة الشيخ إبراهيم في المشهد الفكري والسياسي للبحرين آنذاك». وأضافت: «ورغم أنني لم أقرأ الكتاب وقتها، إلا أن اسم الأنصاري بقي محفوراً في ذاكرتي، حتى عثرت لاحقاً على ديوان جدي وبدأت أقرأه بعين مختلفة، استلهمت فيها الريادة والدور التاريخي، لا من الشعر فقط، بل من الحضور الفكري الذي دوّنه الأنصاري عنه».

وتابعت: «بعد وفاة والدي، انتقلت مكتبته وأوراقه ومراسلاته إليّ، ومنها رسائل ثمينة كتبها إلى د. الأنصاري، تحمل تقديراً كبيراً لجهوده في البحث والتوثيق. إحدى هذه الرسائل مازالت عزيزة جداً عليّ، إذ يصف فيها والدي د.الأنصاري بأنه صاحب فضل على الثقافة والمعرفة في البحرين».

واستذكرت الشيخة مي محطات شخصية أخرى، منها حين تشرّفت بلقاء د.الأنصاري في منزل العائلة لأول مرة، وكذلك دعمه لمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث عند افتتاحه عام 2012، حين بادرها برسالة تهنئة ناقلاً إليها كلمات جلالة الملك المعظم في تلك المناسبة.

وأضافت: «كما جمعنا د.الأنصاري في وزارة الثقافة عام 2016، حيث احتُفي به بحضور شخصيات وطنية بارزة، وكان ذلك تكريماً مستحقاً لمفكر عربي كبير أعطى البحرين والمنطقة الكثير».

وختمت كلمتها بالقول: «يبقى كتاب د. محمد الأنصاري عن الشيخ إبراهيم أول عمل يحفظ ريادة جدي في مجال الأدب والفكر، وهو كتاب عزيز علينا كأسرة، وعزيز عليّ شخصياً لأنه يمثل نقطة انطلاق في مسيرة البحث التاريخي في البحرين. نجتمع اليوم لنؤكد أن الأنصاري كان رائداً من روّاد المعرفة، وأن إرثه سيبقى نبراساً للأمل والعمل الثقافي المستمر».

تحدي مزدوج

من جانبه، أعرب د. سعد البازعي عن بالغ امتنانه لجامعة الخليج العربي، موجهاً شكره لسفير خادم الحرمين الشريفين الذي أتاح فرصة هذا اللقاء الفكري المتميز لتكريم أحد أبرز مفكري العالم العربي، الراحل د. محمد الأنصاري. البازعي استذكر في كلمته أولى محطاته مع د.الأنصاري منذ العام 1987 في البحرين، حين حضر ندوة أقامتها أسرة الأدباء والكتاب البحرينيين بمشاركة د.الأنصاري والراحل محمد الماجد، ثم لقاء ثانٍ في بيروت خلال مهرجان ثقافي. وقال: «اللقاءان كانا غنيين بالحوار والمعرفة، وأكد لي شخصياً فرادة حضور الأنصاري في المشهد الثقافي».

وأكد البازعي أن د. الأنصاري لم يكن مجرد باحث أو مفكر عربي، بل كان أيضاً مثقفاً عضوياً أسهم في التنمية الثقافية لوطنه البحرين، وفي إثراء الحياة الفكرية بمنطقة الخليج، إلى جانب انخراطه في الحوار العربي الأوسع. وأضاف أن هذا الدور المزدوج -الجمع بين الالتزام الوطني والمشاركة في الحراك الفكري العربي- شكّل علامة فارقة في مسيرته.

واستعرض البازعي أهم إسهامات د.الأنصاري الفكرية، وعلى رأسها كتابه الشهير «الفكر العربي وصراع الأضداد»، الذي كان في الأصل أطروحته للدكتوراه في الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث تناول من خلاله التيارات الإسلامية والقومية والاشتراكية والعلمانية في الفكر العربي، مقارباً إياها بمفهوم التوفيقية الذي وظّفه كأداة تحليلية لقراءة التفاعلات الفكرية العربية عبر التاريخ. وقد شدد د. الأنصاري على التمييز بين «التوفيقية» الجادة و»التلفيقية» المصطنعة.

ولفت البازعي إلى أن الأنصاري واجه تحدياً مزدوجاً، إذ انطلق من بيئة خليجية تُصنَّف في نظر بعض المراكز الثقافية العربية كـ»أطراف»، وهو ما انعكس في محدودية الاهتمام العربي بأعماله مقارنة بما كان يستحق من تقدير. ومع ذلك، فقد ترك إرثاً علمياً وفكرياً متنوعاً، من دراسته المهمة عن ابن خلدون إلى بحوثه حول اللغة الإنسانية وقضايا الفكر العربي.

وختم البازعي بالتأكيد أن مثل هذه الندوات قادرة على إعادة الاعتبار لمكانة الأنصاري وإبراز الفراغ الكبير الذي تركه رحيله، مضيفًا: لقد كان الأنصاري صوتاً فكرياً متفرداً، أثرى الثقافة العربية وأسهم في بناء وعي حضاري في الخليج والعالم العربي، ومازال مشروعه الفكري يلهم أجيال الباحثين.