خلق الله الإنسان اجتماعياً بطبعه، لا يستغني عن مخالطة الآخرين، ينفعهم وينتفع منهم، ويأنس بوجودهم. وقد حثّ سبحانه وتعالى على صلة الأرحام، وعيادة المريض، وزيارة الإخوان، ورعاية الأيتام والمكلومين، لما في ذلك من مصالح عظيمة للفرد والمجتمع.لكن هذه المخالطة لها وجهان:
وجه مذموم: إذا كانت لمجرّد التسلية وإضاعة الأوقات فيما لا ينفع، فإنها تفسد القلب وتضيع العمر.وجه محمود: إذا كانت للتعاون على طاعة الله، والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم القُربات. قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى»، «المائدة: 2».
وفي الحديث الشريف: «ما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
ومن أروع النماذج التي بيَّنها القرآن الكريم في سورة الحجرات، قصة الصحابة الذين كانوا يزورون النبي ﷺ، فيقفون على بابه أحياناً في غير وقت مناسب، وينادونه من وراء الحجرات: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»، «الحجرات: 4».
فنزل القرآن يُعلِّمهم أدب الزيارة، ويحثهم على انتظار الوقت المناسب، وعلى الاستئذان، وخفض الصوت عند مخاطبته ﷺ، فقال تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ...»، «الحجرات: 2».
فكان ذلك تربية ربانية عظيمة، تُعلِّم الأمة كلها أن الزيارة لا بد أن تكون مقرونة بالاحترام، والتقدير، ومراعاة الأوقات والآداب.
وبالنظر إلى الاجتماعات والزيارات النافعة، نجد أن لها فوائد جمة منها تقوية روابط الأخوّة، وإزالة الوحشة بين القلوب.
وكذلك التعاون على الطاعة: طلب العلم، نصرة المظلوم، الدعوة إلى الله. وتبادل الخبرات النافعة في الدين والدنيا.
وبثّ السكينة والطمأنينة، وانتعاش القلوب بمجالس الإيمان.
واكتساب البركة في العمر والوقت، إذ يعود المرء منها بخيرٍ أعظم مما لو قضى وقته منفردًا.
وقد تبدو الأمور بسيطة لكن هناك آداب للزيارة لا بد من مراعاتها من أهمها:
الإخلاص لله: أن تكون الزيارة في الله لا لمصالح دنيوية.واختيار الوقت المناسب: أي مراعاة أحوال المزور.والاستئذان: كما أمر الله تعالى «فَاسْتَأْذِنُوا عَلَيْهِمْ»، «النور: 27».والاقتصاد في الجلوس: فالزيارة السريعة أحبّ، إلا إذا رُغِب في بقائه.وحفظ اللسان: أي اجتناب الغيبة واللغو والجدال.والتواصي بالخير: يكون الحديث نافعًا، فيه ذكر الله أو تبادل للنفع.وفي نهاية الزيارة الدعاء لصاحب البيت عند الانصراف: اقتداءً بالنبي ﷺ.ومن أسوأ الآفات التي قد تُصيب الزيارة: التزيّن بين الإخوان وفقد الإخلاص.. كثرة الكلام والخلطة بلا حاجة، فيضيع الأجر.وتحوّل الزيارة إلى عادة وشهوة لا مقصد شرعي وراءها.فالزيارة والاجتماع بين المؤمنين عبادة عظيمة متى صَحَّت النية والتُزمَت الآداب، وهي سبب لزيادة الإيمان وبثّ الألفة والسكينة. أما إذا انحرفت عن مقصدها، صارت وبالاً على القلب وإهداراً للعمر. ولنا في القرآن عبرة عظيمة من قصة الصحابة في الحجرات، حين علّمهم الله الأدب في الزيارة ومخاطبة النبي ﷺ، لتبقى لنا منهجاً في حياتنا كلها.فالميزان في الزيارة: اجتماع على طاعة = غنيمة، واجتماع على لغو = خسارة..كم هو جميل أن نترك من زرناهم فرحين سعداء لا يقول لسان حالهم «ليته لم يحضر».