حنان الخلفان
لم يعد الهالوين ذلك الاحتفال الغربي البعيد الذي نقرأ عنه في الكتب، أو نشاهده في أفلام الرعب القديمة. اليوم، يكفي أن تفتح هاتفك في نهاية أكتوبر لتجد سيلاً من الإعلانات الملونة، الكعكات السوداء والبرتقالية، والدعوات إلى حفلات تنكّرية تُقام في بعض المقاهي والمطاعم.
وحتى المخابز المحلية أصبحت ترسل إشعارات عن «كيك الهالوين»، وكأن المناسبة جزء من تراثنا الشعبي لا من ثقافة مستوردة.
بل إن بعض السوبرماركت الراقية خصّصت زوايا كاملة مزينة باليقطين والأقنعة والعناكب البلاستيكية، في مشهدٍ يُعيد إنتاج طقوس الهالوين الغربية داخل الفضاء المحلي، وكأنها موسمٌ تجاري جديد يسبق الشتاء.
تسلّل الهالوين إلى وعينا الجمعي عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي روّجت له بوصفه موسمًا للمرح والتصوير والتجديد البصري. فالإعلانات لا تكتفي بعرض المنتجات، بل تبني حولها قصة كاملة من الإضاءة الخافتة والموسيقى الغامضة والوجوه المطلية التي تحاكي أفلام مصّاصي الدماء.
ومع كل صورة تنتشر، وكل فلتر يظهر على «إنستغرام» أو «سناب شات»، تتسع رقعة المشاركة، ويصبح الاحتفال جزءًا من المشهد الاجتماعي الحديث، حتى في مجتمعات لم تكن تعرفه من قبل.
ولم يتوقف الأمر عند المراكز التجارية والمطاعم، بل امتد إلى بعض الأحياء السكنية الراقية التي باتت تحتفل به بشكلٍ علني، حيث ترى الأطفال متنكرين في أزياء الساحرات ومصاصي الدماء، يطرقون الأبواب لجمع الحلوى وسط ديكوراتٍ مرعبة وأضواءٍ خافتة تملأ الممرات.
وهكذا تحوّل الهالوين من مشهدٍ على الشاشة إلى طقسٍ واقعي يتكرر سنوياً في بعض المناطق، حاملاً معه أسئلة عن الحدود بين التأثر الثقافي والانصهار الكامل.
وراء هذه الظاهرة، تقف قوة ناعمة تمارسها وسائل الإعلام الحديثة، إذ تحوّل كل مناسبة عالمية إلى فرصة تسويقية وثقافية في آنٍ واحد. فالهالوين لم يعد عن الأرواح أو الأساطير القديمة، بل عن الصورة الجميلة التي يمكن أن تلتقطها، والزي الغريب الذي يثير الإعجاب، وعدد الإعجابات الذي يحصد الانبهار المؤقت.
إنها صناعة محتوى متكاملة تُعيد تشكيل ذائقة الجمهور، وتحوّل المشهد من مناسبة غربية إلى ظاهرة إعلامية ذات طابع تجاري وثقافي.
وبين المرح والإثارة، يظل السؤال حاضرًا: هل ما نحتفل به اليوم مجرد تقليد عابر، أم أنه مرآة تكشف مدى تأثير الإعلام في صياغة سلوك الناس واتجاهاتهم؟
ولمن لا يعرف، فإن الهالوين يعود إلى مهرجان «سامهاين» الذي كان يحتفل به السلت في أيرلندا واسكتلندا قبل أكثر من ألفي عام، وكان يرمز إلى نهاية الصيف وبداية الشتاء. كان الناس يؤمنون أن ليلة 31 أكتوبر هي الليلة التي تعود فيها أرواح الموتى إلى الأرض، فيشعلون النيران ويرتدون الأقنعة لطرد الأرواح الشريرة.
ومع مرور الزمن، تغيّرت المظاهر والرموز، وتحوّل الاحتفال تدريجياً إلى مناسبة اجتماعية وترفيهية بعيدة عن أي بعدٍ ديني، حتى أصبح اليوم مهرجانًا عالميًا ذا طابع تجاري بصري يختلط فيه الخيال بالتسلية، والرعب بالزينة، دون أن يمتّ لقيم مجتمعاتنا الإسلامية أو هويتنا الثقافية بصلة.
وبصراحة.. تبقى المسؤولية الثقافية والإعلامية على عاتقنا جميعاً، أن نحافظ على ملامحنا الأصيلة وسط هذا الزخم من العادات المستوردة. فليس المطلوب أن نغلق النوافذ في وجه العالم، بل أن نعرف متى نفتحها، وكيف نُدخل الضوء، دون أن نفقد لوننا.
فالهالوين، وإن بدا احتفالاً بريئاً بالمرح، يذكّرنا بأن قوة الإعلام لا تقتصر على نشر الحدث، بل تمتد إلى تشكيل الهوية والوعي، وأن المجتمعات التي تحسن إدارة انفتاحها هي وحدها القادرة على الحفاظ على توازنها بين الأصالة والتأثر، بين ما يأتي من الخارج وما يبقى في القلب.