د. سامح بدوي

العنف الأسري ليس مجرد مصطلح تربوي أو عنوان مقال أو متغيّر بحثي في أدبياتنا، بل هو قضية شغلت المجتمعات الساعية إلى إعداد جيل سوي. فمسألة الوعي به تعني إدراكاً لآثاره في هدم الأسرة والمجتمع على حد سواء، فالأطفال هم الحلقة الأضعف في التكوين الأسري، والأكثر عرضة للعنف وسوء المعاملة، فالتعاملات اليومية تنعكس على الجوانب النفسية والاجتماعية للأطفال وخاصة في السنوات الأولى من تكوينهم.

وقد تناولت العديد من الاتجاهات التربوية المعاصرة ونظريات علم النفس الطفولي هذه القضية، مثل نظرية التحليل النفسي لفرويد، ونظرية النمو النفسي - الاجتماعي التي أكدت أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل تُعد الركيزة الأهم في بناء شخصيته ونظرته للحياة وتكوين وجدانه وعلاقاته الداخلية والخارجية.

وقد أشار العديد من علماء النفس إلى أن معظم المشكلات والاضطرابات السلوكية التي يعاني منها الكبار هي في الأصل مشكلات نشأت في مرحلة الطفولة؛ فانعدام العطف والتسلّط في الصغر يُنتج شاباً عنيفاً متمرداً فاقد الثقة بنفسه وبالآخرين، كما أن النقد المفرط والحماية المبالغ فيها من قِبل الوالدين يعزّزان الخجل والشك الدائم لدى الفرد في قدراته، كذلك تؤدي الضغوط المستمرة إلى تجنّب المواجهة والإنكار والتسلّط.

وعندما يتعمّد الوالدان العقوبة القائمة على المنع والكبت فإن هذا يرسّخ الإحساس المستمر بالذنب لدى الطفل، كذلك العقاب الجسدي في البيت أو الروضة أو المدرسة يؤدي إلى الاكتئاب والقلق وعدم الرغبة في بناء علاقات مع الآخرين، والبخل المادي المبالغ من الوالدين يعزّز الشعور بالدونية أمام الرفاق، وتدعم خلافات الأب والأم اضطرابات القلق والعدوانية، وتغذي سلوكيات التنمّر والعزلة والانطواء والقلق الاجتماعي وانخفاض تقدير الذات.

وعلى العكس من ذلك يؤدي التساهل في التعاملات والتدليل المفرط إلى جعل الطفل شاباً أنانياً لا يتحمّل المسؤولية ويتهرّب منها معتمداً على الآخرين في كل شيء، لذا فإن الأمان العاطفي والتربية الإيجابية يدعمان الثقة بالنفس ويُكسبان الشخصية اتزاناً، فحب الطفل ورعايته من قِبل أسرته يعني التكيّف والثقة، وهذا يعني أننا أمام حاجة مُلحّة إلى ضرورة دعم البناء النفسي للطفل ليتمكن من التكيّف مع نفسه ومع الآخرين، ويجعله أكثر قبولاً وتمتعاً للحياة بقدر من التوازن والحماس والأمل، قادراً على مواجهة التحديات والأزمات وضبط سلوكياته بثبات، وإقامة السلام مع نفسه والآخرين، وهذا يتحقق من خلال البناء النفسي للطفل والعمل على تطوير حاجاته الجسدية والاجتماعية والنفسية، لأن عدم الإشباع يعني اضطراباً وعدم اكتمال شخصية الطفل، إذ يتطلب بناؤها جملة من الممارسات التربوية أهمها النمو المتوازن نفسياً واجتماعياً، وتحقيق التواصل الفاعل والدائم معه والتحدّث إليه والاستماع لرأيه في شؤون حياته اليومية، وتدريبه على الاعتماد على نفسه والاعتناء بنظافته الشخصية، وتمكينه من مهارات التعامل مع الآخرين ومشاركتهم الألعاب والمشاعر المختلفة وتعليمه آليات التوافق والاختلاف، وتعزيز المهارات الاجتماعية كالمساعدة والتعاون وبناء علاقات إيجابية، وتحديد أوقات مناسبة للألعاب الترفيهية خاصة الإلكترونية، والحرص على التفاعل المباشر وجهًا لوجه، والحفاظ على نمط صحي يشمل النوم الكافي ليتمكن الطفل من النمو في بيئة آمنة ومتوازنة، وبناء اتجاهات إيجابية نحو العمل والمشاركة، وبث قيم المبادرة والتعاون والمثابرة بما يفتح أمامه آفاقاً واسعة للتعلم والنمو المتوازن.