د. مينا الكاظمي

كم مرة شعرتُ ببرودةٍ تسكن أطرافي في أمسيات الشتاء، حتى أمدّ يدي لمصافحة قريبةٍ أو صديقة، فأجد في دفء كفّها طمأنينةً لا تشبه أيَّ دفءٍ آخر؟ أحياناً أضمّ كفّيّ بين كفّيها وأقول، مازحةً جادّة: «ضمّوا يدي قليلاً، أحتاج دفئكم»، فأدرك أن الحرارة التي تسري في جسدي تحمل رسالة أعمق من الإحساس اللحظي؛ فهي تذكير بأن الإنسان مخلوق يزدهر بحرارة القرب لا بحرارة الأجهزة. فحين تلتقي الأيدي ينطفئ جليد الداخل قبل أن تذوب برودة الهواء.

يؤكد علمُ النفس العصبي أن هذا الترابط بين الجسد والمشاعر ليس مجرّدَ مجازٍ لغويّ؛ فالمناطق العصبية التي تستقبل إحساس الدفء الجسدي تنشط أيضاً عند الشعور بالأمان والعاطفة.

وقد أظهرت دراسة لويليامز وبارغ (جامعة ييل، 2008) أن مجرّد الإمساك بشيءٍ دافئ يجعل الإنسان أكثر مَيلاً للودّ والثقة، وكأنّ الجسد والعاطفة يتحدثان اللغةَ ذاتَها. لذلك فإن ما نسمّيه «دفءَ البيت» تجربةٌ حقيقية تُسجَّل في الخلايا قبل أن تنطقَ بها الكلمات.

وتشير بحوثُ المقارنة الثقافية إلى أن المجتمعاتِ الحارة تميل إلى الترابط الأسري الكبير واللقاءات اليومية المفتوحة، بينما تميل البيئاتُ الباردة إلى الخصوصية العالية ونَظْم الحياة الفردية. فالمناخُ الحار يدعو إلى الجلوس خارج الجدران ومشاركة التفاصيل، أمّا البردُ فيُغلق النوافذ والأبواب، ومعها تنكمش دوائرُ التواصل. ولهذا يبدو دفءُ المجتمعات الحارة، حسّياً وروحياً، ممهِّداً لتكوين عائلات مترابطة ومتجاورة.

وفي علم الاجتماع الأسري يُعَدّ التواصل القريب، والعناق، والحديث المشترك مؤشّراً على سلامة الرابط العاطفي، إذ تُفعِّل هذه الممارسات «هرمونَ الأوكسيتوسين» الذي يعزّز الثقة ويقلّل التوتّر، تماماً كما يفعل الدفء المادي بالجسد المتجمّد. فالدفءُ المنزليّ ليس ترفاً، بل ضرورةٌ نفسية تحافظ على توازن الفرد وترابط الأجيال.

أتأمل أحفادي وهم يستمعون إلى القصص والقرآن في أحضان والديهم، فيغمرني يقينٌ بأن الدفءَ الذي يحتضنهم اليوم سيغدو اللغةَ التي يحبّون بها العالمَ غداً. ومع ذلك، لا أكفّ عن التساؤل: كم من بيوتٍ تضيئها الأنوارُ بينما تخبو قلوبُ أهلها؟ وهل مازلنا نمنح بعضَنا حرارةَ الحضور التي تذيب صقيعَ المسافة؟ ربما تكفي لمسةٌ واحدة لتعيد إشعالَ البيت... وتوقظَ فينا إنسانَنا من برد الغياب.