هناك مدنٌ لا تحتاج إلى مقدّمات طويلة، يكفي أن تتنفس ليعود الناس إلى ذاكرتهم الأولى. والمحرق من هذا النوع من المدن؛ يكفي أن تُضاء أزقّتها حتى ينفتح في قلوب الزوّار بابٌ قديم يُشبه البيوت الخليجية التي تربّوا فيها. ومع بداية ديسمبر من كل عام، يتجدد الحديث في الخليج عن فعالية «ليالي المحرق»، وكأنها موسمٌ اجتماعي تنتظره العائلات كما تنتظر الأعياد والمناسبات التي تجمعها على طاولة واحدة.
لم تعد هذه الليالي محصورة في إطارها المحلي، بل أصبحت وجهة خليجية متجددة. فالعائلات القادمة من مختلف دول الخليج تجد في المحرق ما لم تعد تجده في كثير من المدن الحديثة: الدفء، والبساطة، وصدق المكان. وما يدفعهم للعودة عاماً بعد عام ليس كثرة الأنشطة، بل تلك الهوية التي لا تزال واقفة بثبات أمام تغيّر الزمن. فالمحرق بنورها القديم وأزقتها الضيقة تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تجعل الزائر يشعر بأنه (يعرف المكان) حتى من قبل أن يزوره.
وفي السنوات الأخيرة، بات حضور الخليجيين لهذه الليالي جزءاً من طقوس ديسمبر. نراهم في مقاطع مصوّرة يتحدثون بحميمية عن زياراتهم المتكررة، وعن تعلّقهم بالمكان، وعن انتظارهم لليالي هذا العام كما لو كانت موعداً عائلياً ثابتاً. بعضهم يوثّق اللحظة منذ أول زيارة، وآخرون يكررون الحضور بلا انقطاع، حتى أصبح مشهدهم جزءاً من ذاكرة الفعالية نفسها. وهذا الشغف المتجدد يعكس كيف تحوّل شهر ديسمبر في البحرين إلى موسم سياحي دافئ يجمع بين الروح الوطنية والأجواء الاحتفالية، فتتزين المدن وتُفتح البيوت وتستقبل المملكة زوّارها بصورة تليق بروحها.
وتميزت (ليالي المحرق) أنها لا تستعرض التراث، بل تعيشه بكل تفاصيله. فالأسواق تمتلئ بالحرفيين، والفرجان تنبض بمشاريع الأسر المنتجة، فيما يتردد صوت الفن البحريني والموسيقى الشعبية في الأزقة كأنها خيطٌ يربط الزائر بذاكرة المكان. هنا تختلط رائحة العمل اليدوي بإيقاع الطبول والعود، فيتحوّل الفريج إلى اقتصاد شعبي نابض بالحياة وروح. ومع ازدياد الزوار، تزدهر العلاقات بين الناس، ويغدو ديسمبر وقتًا تتضافر فيه الحركة والدفء والفن، لينعكس أثره على المدينة وأهلها.
ومع مرور السنوات، أصبحت الليالي فريجًا خليجيًا مفتوحًا، تختفي فيه الفوارق وتبقى الملامح المشتركة. لهجات متقاربة، ضحكات متناغمة، أطفال يمرحون بلا قيود، ونساء ورجال يتعاملون مع المكان كأنه بيتهم الأول. وهذا ما يصنع خصوصية «ليالي المحرق»؛ فهي لا تجمع الناس حول العروض، بل حول القيم التي تربّى عليها أبناء الخليج منذ نشأتهم: الكرم، والبساطة، وروح العشرة.
وليس غريبًا أن تترك المحرق هذا الأثر في الزوّار؛ فهي مدينة تعرف كيف تحافظ على روحها دون أن تتصنّع، وتعرف كيف تستقبل الناس ببساطتها دون أن تفقد هيبتها. البحرين بأكملها تقدّم نفسها للعالم بصورة صادقة: لا تكلّف فيها، ولا مبالغة، بل هوية يعيشها الناس قبل أن يروّجوا لها. ولهذا أصبحت «ليالي المحرق» رمزاً لطريقة البحرين في الاحتفاء بزوارها؛ حضورٌ دافئ، وأبوابٌ مفتوحة، ومساحاتٌ تحمل ملامح وطنٍ وفيٍّ لروحه القديمة رغم كل مظاهر التحديث.
وفي النهاية، تظل «ليالي المحرق» أكثر من فعالية موسمية؛ إنها لقاءٌ سنوي يربط أهل الخليج ببعضهم، ويعيدهم إلى البدايات الأولى. ولهذا يبقى ديسمبر شهراً ينتظره الجميع، ليس فقط لأعياد البحرين واحتفالاتها الوطنية، بل لأنه يحمل معه موعداً مع مدينة لا تزال تعرف كيف تحفظ أثرها في القلوب، وتكتب حكايتها كل عام بطريقة لا يستطيع أن يكررها أحد.