سماهر سيف اليزل
لم تكن تجربة الشرطة النسائية في البحرين مجرد استجابة مرحلية لاحتياجات اجتماعية، بل مشروعاً وطنياً متكاملاً بدأ منذ عام 1970، وتطوّر عبر العقود ليصبح اليوم أحد أبرز نماذج تمكين المرأة في العمل الأمني على مستوى المنطقة، حيث تقف الشرطية البحرينية في الصفوف الأمامية، حاملة مسؤوليات ميدانية وتخصصية دقيقة، تسهم في حفظ الأمن وصناعة العدالة وتعزيز الاستقرار المجتمعي.
واليوم تقف الشرطية البحرينية في الميدان، وفي المختبر الجنائي، وعلى السواحل، وفي غرف التحقيق، بوصفها عنصراً فاعلًا في منظومة الأمن الوطني، لتؤكد أن تجربة البحرين في تمكين المرأة أمنياً لم تكن استثناءً، بل خياراً استراتيجياً أثمر نموذجاً متقدماً يُحتذى به إقليمياً.
من بدايات اجتماعية إلى منظومة أمنية متكاملة
في سبعينيات القرن الماضي، انطلقت الشرطة النسائية بأدوار محددة، تمحورت حول قضايا المرأة والطفل، ومتابعة الأحداث الجانحين، بما يراعي الخصوصية الاجتماعية للمجتمع البحريني.
غير أن هذه المرحلة سرعان ما تحولت إلى قاعدة انطلاق، مع اتساع الرؤية الوطنية لدور المرأة، ودعم القيادة العليا، والشراكة المستمرة مع المجلس الأعلى للمرأة.
ومع مطلع الألفية الجديدة، دخلت الشرطة النسائية مرحلة التمكين المؤسسي، لتغدو إدارة عامة تضم وحدات متخصصة، وتعمل ضمن منظومة وزارة الداخلية وفق معايير احترافية، تتكامل فيها المهام الأمنية مع الأبعاد الإنسانية والمجتمعية.
المرأة في الميدان.. حضور وقرار
في الشارع، وعلى الطرق، وفي مواقع الحوادث، بات حضور الشرطية البحرينية مشهداً مألوفاً. ففي إدارة المرور، تشارك الشرطيات في الدوريات الميدانية، وتنظيم الحركة المرورية، والتعامل مع الحوادث، إضافة إلى حضورهن في الفعاليات الكبرى.
وتروي إحدى الشرطيات كيف تحولت من متدربة إلى قائدة موقف ميداني، تتخذ القرار في لحظات حرجة، مؤكدة أن التدريب والثقة المؤسسية كانا حجر الأساس في هذه التجربة.
أما في إدارة حماية الأسرة والطفل، فتأخذ القصص بُعداً إنسانياً أعمق. هنا، لا تكتفي الشرطية بتطبيق القانون، بل تمارس دوراً مركزياً في حماية الضحايا، واحتواء الحالات، وبناء الثقة، خصوصاً في قضايا العنف الأسري.
وتؤكد ضابطة عاملة في هذا المجال أن وجود المرأة كان عنصراً حاسماً في تشجيع الضحايا على الإبلاغ وطلب المساعدة.
مسرح الجريمة.. المرأة في قلب العلوم الجنائية
وفي تطور نوعي يعكس تحديث المنظومة الأمنية، شهدت البحرين تشكيل فرق تحقيق نسائية متخصصة في مسرح الجريمة، في خطوة تُعد علامة فارقة في مسار تمكين المرأة في العلوم الجنائية والتحقيقات الحساسة.
هذه الفرق تعمل وفق منهج علمي متقدم، يدمج تخصصات حديثة في الطب الشرعي وعلم الأدلة الجنائية (Forensics)، بما يشمل تحليل المواد البيولوجية والكيميائية، والبصمات، وآثار الأقدام، والألياف، إضافة إلى الطب الشرعي الرقمي المرتبط بالأدلة الإلكترونية والسيبرانية.
ويبرز دور الشرطيات في: التحليل البيولوجي وفحص الحمض النووي (DNA) والدم والسوائل الحيوية، وتأمين مسرح الجريمة باستخدام تقنيات متقدمة تمنع تلوث الأدلة، والتعامل الحساس مع الشهود والضحايا الذين قد يفضلون التواصل مع محققات.
ويؤكد مختصون أن دقة الملاحظة، وتنوع وجهات النظر التحليلية، التي تضيفها المرأة في هذا المجال، تعزز من جودة الاستدلال الجنائي ودقة العدالة، وهو ما يتماشى مع المعايير الدولية للتحقيق الجنائي الحديث، كما تشير إليه أدبيات مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة «UNODC».
من البر إلى البحر.. خفيرات السواحل يكتبن فصلاً جديداً
وفي نوفمبر 2025، سجلت الشرطة النسائية إنجازاً جديداً باحتفاء البحرين بتخريج أول دفعة من الشرطيات في دورة العلوم البحرية التخصصية بخفر السواحل، في خطوة تعكس توسع دور المرأة إلى أحد أكثر المجالات الأمنية تحدياً.
تحكي إحدى الخريجات، أن اختيار العمل في البيئة البحرية لم يكن سهلاً، لكنه كان قراراً وطنياً نابعاً من الرغبة في خدمة الوطن من موقع مختلف.
وتؤكد أن التدريب على الملاحة والإنقاذ والعمل في ظروف بحرية قاسية شكّل اختباراً حقيقياً للإرادة، أثبتت خلاله المرأة البحرينية قدرتها على حماية حدود الوطن البحرية كما تحمي أمنه الداخلي.
التدريب.. العمود الفقري للنجاح
لم تأتِ هذه التحولات من فراغ، بل كانت ثمرة برامج تدريب متقدمة شملت الجوانب البدنية، والقانونية، والتقنية، والنفسية، إلى جانب التخصصات الدقيقة، ما جعل الشرطية البحرينية مؤهلة للعمل في بيئات معقدة تتطلب دقة وحنكة وسرعة قرار.
شراكة مجتمعية ورؤية وطنية
إلى جانب العمل الميداني والتخصصي، تضطلع الشرطة النسائية بدور فاعل في تعزيز الشراكة المجتمعية، من خلال البرامج التوعوية، والمشاركة في الفعاليات الوطنية، وحملات التثقيف، بما يعزز مفهوم الأمن الإنساني.
وتأتي هذه التجربة ضمن رؤية وطنية شاملة لتمكين المرأة البحرينية، انسجاماً مع التوجيهات الملكية والمبادرات الوطنية، ومنها مبادرات «بحريننا»، التي تؤكد أن المرأة شريك أصيل في التنمية والأمن.