إنه د.عبدالعزيز بن صقر- رئيس مركز الخليج للأبحاث، الذي أخذنا معه في العدد السابق في رحلة ماتعة تحدثنا فيها عن مراكز البحث العلمي في الخليج العربي، متنقلين بين جدواها وتمويلها واستقلاليتها، إلى دورها في صناعة القرار السياسي في المنطقة أو الإسهام فيه ودعمه من خلال رفد صانع القرار السياسي بالدراسات والمرئيات وجدوى أو تبعات اتخاذ قرار ما، وصولاً إلى دور الشباب في مراكز البحث العلمي وكيف يتم تهيئتهم لتلك المهمة الصعبة التي يعوّل عليها صانع القرار السياسي من جهة، والمجتمع برمته من جهة أخرى. أما بعد استراحة المحارب التي ألقينا لها مراسينا الأسبوع الماضي على ضفاف "جدة" الساحرة؛ نستكمل الحديث مبحرين في قلب الخليج العربي، تأخذنا أمواجه يمنة ويسرة، متحصنين بما لدينا من علم ومعرفة ننهلهما من ضيفنا الكريم، وكما عودناكم في كل رحلة، فإننا خرجنا بصيد وفير وعلم غزير، بعد أن كان هذا اللقاء.
صناعة الوعي السياسي
في وقفة على مركز الخليج للأبحاث الذي يضطلع بإصدار مطبوعات بحثية متنوعة من بينها (مجلة آراء حول الخليج)، وجهنا سؤالنا لـ"بن صقر" حول إذا ما كانت تلك الإصدارات تؤدي أهدافها المنشودة في صناعة الوعي السياسي في المنطقة، فأجاب "مركز الخليج للأبحاث يولي الإصدارات والمطبوعات أهمية كبيرة منذ أن بدأ عمله مطلع الألفية الثالثة، حيث خصص أقساماً للترجمة، والتأليف والنشر، وركز في هذا الجانب على أمهات الكتب خاصة ما يتعلق بالعلاقات الدولية وقضايا الدفاع والأمن والاقتصاد، وقد كان لمنطقة الخليج نصيب وافر من الكتبة الأجنبية المعنية بقضايا هذه المنطقة".
وأردف "أن المركز يصدر كتاباً سنوياً تحت عنوان (الخليج في عام) وهو معني بالمتغيرات التي حدثت أو طرأت على دول مجلس التعاون خلال العام الذي مضى واستشراف العام التالي، ويستقطب كبار المفكرين المعنيين بالشأن الخليجي من كافة التخصصات".
وأضاف بن صقر "إن مجلة (آراء حول الخليج) من الإصدارات التي يعتز بها المركز كثيراً؛ فهي تعد أحد أهم المراجع عن منطقة الخليج، ولا تكاد تخلو أي رسالة ماجستير أو دكتوراه عن منطقة الخليج وإلا تكون مجلة آراء حول الخليج واحدة من أهم المصادر التي يرجع إليها الباحثين، كونها مجلة جادة ومعنية بالشأن الخليجي وتستكتب أكثر من 600 باحث من شتى الدول الخليجية، والعربية، والدول الأجنبية، وهي مجلة متخصصة تخاطب النخبة الخليجية وتناقش قضايا المنطقة في شتى المجالات، وهي محل اهتمام المفكرين الخليجيين والعرب وكل من له اهتمام بمنطقة الخليج العربي".
واستطرد "بدون شك أن الهدف هو زيادة الوعي بأهمية دول المنطقة، والتحديات التي تواجهها، والمهددات التي تحيط بها، وهي قضايا في غاية الأهمية يجب على أبناء المنطقة الالمام بها لتحصين شعوب ودول مجلس التعاون الخليجي ضد المؤامرات الإقليمية والدولية، والمتمثلة في الخطر الإيراني على دول مجلس التعاون، وكذلك خطر الإرهاب والجماعات الإرهابية العابرة للحدود، والتحولات الاقتصادية بعد ضعف سعر النفط وتحول دول الخليج العربية إلى توسيع القاعدة الاقتصادية وتنويع الدخل، وأعتقد في هذه المرحلة تحتاج دول مجلس التعاون إلى زيادة الوعي بهذه التحولات، وما يترتب عليها؛ حتى يتم التحول من مجتمع ريعي إلى مجتمع إنتاجي لديه العديد من المزايا النسبية يجب الاستفادة منها واقتناص الفرص المواتية حتى تستطيع دول الخليج أن تواكب التطورات العالمية، وأن تتحقق معدلات النمو العالية ومستويات الرفاهية التي اعتاد عليها أبناء المجلس خلال السنوات السابقة".
آراء حول الخليج
ونظراً لإشارة بن صقر لأهمية مجلة (آراء حول الخليج)، ولما لها من شهرة واسعة في أوساط النخب الخليجية الفكرية والسياسية، بحثت "الوطن" عن فرص وشروط الاستكتاب التي توفرها تلك المجلة للباحثين الخليجيين، وعرّج بن صقر على هذا الشأن بقوله"مجلة آراء حول الخليج تفتح صفحاتها للباحثين من أبناء دول الخليج في المقام الأول كونها معنية بمنطقة الخليج وتطرح وتناقش قضايا منطقة الخليج، كما يتبين من اسمها، وفي كل عدد نطرح محاور العدد القادم حتى نعطي الباحثين فرصة شهر للكتابة في هذه المحاور، ولا تشترط المجلة للنشر إلا القدرة على الكتابة والتحليل السليم، والتخصص والكتابة في إطار ما هو يخضع للبحث الجاد والتحليل المنطقي، والإضافة لإثراء ملف العدد".
ولفت إلى أن "المجلة تخصص الملف الرئيس لكل عدد حول قضية بذاتها، وتعمل على توزيعها لمحاور، ومن ثم توزيع المحاور على محللين وكتاب من المتخصصين والمعنيين بملف العدد، والمجلة بذلك تستهدف تشجيع الكفاءات البحثية الخليجية للكتابة حول قضايا دولها، كونها على علم بما يحدث على الساحة الخليجية، بل إن المجلة تقدم محفزات للكتابة، وتكون الأولوية لأبناء دول المجلس". وأضاف بن صقر إلى أن للمجلة "مجلساً استشارياً من كبار الأكاديميين والمحللين الخليجيين من دول مجلس التعاون الست، لكن للأسف وأقولها بمرارة هناك عزوف كبير جداً من الباحثين الخليجيين عن الكتابة، في حين نجد رغبة وإصرار من الأخوة الباحثين العرب وكبار المحللين والأكاديميين على الكتابة في المجلة التي نجدها في مكتبات كبريات الجامعات ومراكز الأبحاث العربية، والعديد من الجهات الحكومية، لما بها من مادة غزيرة تستحق القراءة".
وأردف بن صقر "أنتهز هذا الحوار وأتوجه بالدعوة إلى كل الباحثين والمحللين من أبناء دول مجلس التعاون للكتابة في المجلة، وكذلك التواصل معي عبر البريد الإلكتروني، فإنني على أتم الاستعداد لتلقي أي ملاحظات تخدم النشر في المجلة حيث الهدف وهو خدمة منطقة الخليج العربي ودولها الست وشعوبها".
ترتيب الأولويات
وحول كيفية ترتيب أولويات القضايا في مركز الخليج للأبحاث، حدثنا بن صقر أن "مركز الخليج للأبحاث لديه سياسة ثابتة منذ إنشائه تقوم على خدمة منطقة الخليج وتحت شعار المعرفة للجميع وأن المركز مؤسسة بحثية غير ربحية، وفي هذا الإطار للمركز ثوابت ومتغيرات لخدمة دول مجلس التعاون ومن بينها المؤتمر السنوي الذي ينظمه في المملكة أو منطقة الخليج، وهو مؤتمر الخليج السنوي الذي يناقش علاقات دول مجلس التعاون مع محيطها الإقليمي والدولي، كما يناقش التطورات الخليجية وكيفية مواجهة المتغيرات والتحديات. كما ينظم مركز الخليج للأبحاث مؤتمره السنوي في نهاية يوليو وبداية أغسطس من خلال فرعه بكامبريدج، بالتعاون مع جامعة كامبريدج العالمية الشهيرة، بمشاركة باحثين من مختلف دول العالم، يشارك فيه نخبة متميزة من المسؤولين الخليجيين، من أصحاب السمو الأمراء، ومن أصحاب المعالي الوزراء، ويكون دوماً في مقدمة المشاركين، ويفتتح المؤتمر بكلمة سنوية الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي د.عبداللطيف بن راشد الزياني، الرجل الذي يحترم ويقدر العمل الخليجي المشترك، ولا يدخر وسعاً في دعم الأعمال الخليجية من أجل دول وشعوب دول المجلس".
وأضاف بن صقر "إن المركز ينظم مؤتمرات غير مجدولة، كلما اقتضت الحاجة، كما حدث ونظم مؤتمرات عن الاتحاد الخليجي العام الماضي والذي سبقه في المنامة والقاهرة، حيث لدى المركز برنامج (الاتحاد الخليجي العربي: آفاق المستقبل)، وقد شارك في المؤتمرين شخصيات خليجية وعربية رفيعة المستوى، ووجد قبولاً كبيراً وتغطية إعلامية واسعة في مختلف وسائل الإعلام".
هياكل خليجية
وانتقالاً لقضايا الخليج العربي ومستقبل التعاون الخليجي، سألنا "بن صقر" إن كان يرى هيكل مجلس التعاون ناجحاً، وإذا ما كنا بحاجة إلى هيكل جديد، وبثقة كبيرة قال "مجلس التعاون الخليجي بالهيكل الحالي نجح في الاستمرار والصمود أمام الرياح العاتية التي اجتاحت المنطقة منذ حرب الخليج الأولى والثانية ثم حرب العراق، وبعد ذلك ثورات ما يسمى بثورات الربيع العربي، كما حقق المجلس العديد من الإنجازات على أرض الواقع، سواء في الشأن الاقتصادي، أو العسكري، أو الأمني، والتصدي للإرهاب، ومواجهة محاولات الهيمنة الإيرانية، وهذا ما تؤكده قوات درع الجزيرة في مملكة البحرين، وأخيراً عاصفة الحزم والموقف الخليجي من إعادة الشرعية في اليمن".
وأضاف "رغم هذا النجاح إلا أنه في ظل التحديات الراهنة الإقليمية، والمتغيرات الدولية، فأعتقد أنه جاء الوقت المناسب للتحول إلى الاتحاد الخليجي بصيغة توافقية تحفظ لكل دولة خليجية سيادتها واستقلالها، على أن يتم الاتفاق على سياسة خارجية موحدة، والاتحاد في قضايا الدفاع والأمن، وهذه هي الصيغة الأنسب لتحقيق التوازن الاستراتيجي في المنطقة في ظل محاولات الهيمنة الإيرانية، وفي ظل صعود تكتلات دولية وإقليمية حققت مكاسب اقتصادية كبيرة في ظل هذه التكتلات".
الأزمة الاقتصادية الخليجية
وفي سياق الحديث عن التحديات التي واجهت دول الخليج العربي، وجهنا لضيفنا الكريم تساؤلاً حول كيفية تعامل دول مجلس التعاون الخليجي مع الأزمة الاقتصادية، وحول إذا ما كان هناك ثمة توقعات لحدوث انفراجة في هذا الوضع، فبين أن "دول مجلس التعاون الخليجي نجحت في تجاوز الأزمة المالية العالمية التي هزت العالم عامي 2008ـ 2009م، بفضل الأنظمة المالية والاقتصادية السليمة التي تنتهجها دولنا، رغم أن تلك الأزمة هزت اقتصاديات كبرى في العالم". مشيراً إلى أن دول مجلس التعاون "تعاملت بالحكمة نفسها مع أزمة انخفاض أسعار النفط خلال العامين الأخيرين، إذ اتجهت إلى وضع الاستراتيجيات والخطط لمواجهة تداعيات انخفاض سعر السلعة الاستراتيجية، التي تعتمد عليه دول الخليج وهي النفط، وجاءت الحلول في محاولات لبناء اقتصادات أكثر تنوعاً واستقراراً بدلاً من الاقتصاد الريعي الذي تعتمد عليه هذه الدول، ولذلك بدأت جميع دول مجلس التعاون بدون استثناء في وضع الخطط بعيدة المدى والحلول السريعة؛ لإعادة تقييم التوجهات الاقتصادية لمواجهة هذه المتغيرات بما يحفظ لهذه الدول استمرار خطط التنمية لديها".
مؤتمر كامبريدج
وحسب ما وصلنا فقد تبين أن المؤتمر المقبل الذي يعقده مركز الخليج للأبحاث في جامعة كامبريدج يركز على جملة من القضايا المهمة، وقد أرادت "الوطن"أن تحظى بسبق الحديث عنها على عجالة، وبما أن المؤتمر يضع ضمن جدول أعماله الفرص والتحديات على المستوى السياسي والاقتصادي في علاقة دول الخليج العربي مع دول المحيط الهندي من جهة وأستراليا من جهة أخرى، فقد كانت تلك الكلمة الختامية للقائنا مع د.عبدالعزيز بن صقر الذي قال حول العلاقة مع دول المحيط الهندي بدايةً أن "الفرص بين الجانبين كثيرة وواعدة، ولقد بدأت دول مجلس التعاون التحرك للشراكة مع هذه الدول، ولعل جولة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الأخيرة إلى عدة دول آسيوية خير دليل على ذلك، حيث من الضروري أن تتحول علاقة دول الخليج بهذه الدول إلى شراكة استراتيجية شاملة ودائمة لصالح الطرفين، وليست علاقة قائمة فقط على بيع وشراء النفط".
وحول التعاون مع أستراليا أفاد أن "دول مجلس التعاون منفتحة على جميع دول العالم ومن بينها أستراليا، ومن دون شك أن الفرص واعدة وتحتمل نجاحات كثيرة متوقعة، وعلى الجانبين اقتناص الفرص المواتية والتوسع في الاستثمارات المشتركة خاصة التي تعود بالنفع على الجانبين".
وألقينا مراسينا..
وها نحن ذا نصل إلى ضفة آمنة، نستظل بها بالعلم ونستزيد من منهل الدراسات والبحوث، ونستشرف المستقبل بعين قرأت الماضي ورصدت الحاضر، وأقل ما يمكننا تقديمه بعد رحلة طويلة ماتعة مع د.عبدالعزيز بن صقر هو التقدم بجزيل الشكر لسعة صدره وترحابه الأنيق.