عبدالرزاق خالد رومي الرومي مواليد العمارة (جنوب العراق) لعام 1932، قدم إلى البحرين في نهاية الأربعينات حوالي 1948 ليعيش مع والده خالد الذي كان يعمل صائغاً للفضيات في محل (حالياً هو متجر ساعات رادو) مع شريك لـه يدعى عمر بركات بسوق الطواويش (سوق باب البحرين حالياً).
كان العمل مرهقاً، يقول عبدالرزاق.. كنتُ أقضي جل نهاري مقابلاً لفوهة النار.. وأتذكر أنه ذات مرة كنت أنظر للمارة في السوق فأخذتني غفلة فسقطت كرة الفضة في فوهة النار فعنفني والدي بضربة من "منقاش" كان بيده.. لكني تعلمت من هذه المهنة كل شيء في حياتي.
ثم انتقلت بعد وفاة والدي الذي رحل في نهاية السبعينات إلى هذا المحل.. كان إيجاره في الستينات ما يقارب الـ20 روبية. وآنذاك كان معظم زبائننا من الإنجليز الذين خدموا في الجيش.. كانوا يفضلون الفضة على الذهب لكونه أرخص ثمناً.. وقد أحبوا منقوشاتنا الفضية ورسوماتنا المستوحاة من معالم البحرين.. كان محلنا بلا منافس.. فهو الوحيد في السوق.. كنا نصنع من الفضيات سلاسل وأسواراً وخواتم.
يتذكر عبدالرزاق بعض تاريخه فيقول: ذات مرة جاءتنا فرقة "البرشوت" الإنجليزية بكامل منتسبيها إلى المحل لنصنع لهم خواتم خاصة بهم نكتب عليها أسماءهم.. الخاتم الواحد كان يقدر بـ20 روبية أي ما يعادل الآن 10 دنانير .. الـ20 روبية هذه كانت تكفي لكل شيء في الحياة في أيامنا.. يقولها عبدالرزاق مبتسماً.
كذلك كان الحاكم الانجليزي المعروف بلغريف يقيم مسابقات الخيل.. وكانت الهدايا والجوائز للفائزين من هذا المحل.. يستخرج عبدالرزاق في الأثناء صندوقاً فضياً يضعه بين يديه.. ويشير إليه: هذا الصندوق مغلف بالفضة ومنقوش عليه أشجار النخيل..
ويستخرج من كيس ورقي محفوظ بعناية شعاراً فضياً عبارة عن سيفين متقاطعين.. يقول: هذا الشعار هو لشرطة البحرين كان يوضع على قبعاتهم.. كان أيضاً من صناعة فضياتنا.. حيث كان يعمل في الشرطة في الخمسينات ضابط عراقي اسمه علوان أفندي وقد جاءني وطلب أن أصيغ له من هذا الشعار 100 قطعة فضية.
ويستطرد الرومي حكاية محله وما أنجزه بيده.. فيقول: كذلك كان طلاب بابكو يأتون لمحلنا ليشتروا فضيات مرسوم عليها تاريخ دلمون.. كانوا يحبونها كثيراً.. ويعتبرونها من المقتنيات الغالية والنفيسة.
فسألته إن كان البحرينيون يشترون منه كذلك.. فأجابني: لا.. كانت مشتريات البحرينيين تقتصر على "دبل" الزواج فقط.. لم يكونوا يفضلون مثل الأجانب أن توضع أسماؤهم أو أسماء نسائهم على الخواتم وغيرها.
ثم سألت الرومي إن كانت لاتزال لديه ورشة لصياغة الفضة؟؟.. فأجابني مبتسماً وعينه ترمق إلى الأعلى وكأنه ينظر إلى الزمن وما وراءه من حكايا.. أخذتني إلى البعيد.. فكلما أطلت التفكير والتأمل في السنين التي تمضي سريعاً أقول في نفسي: هل فعلاً عشت كل هذا العمر وعملت كل هذا؟
ثم قال لي: هل تعلم أن هذه المهنة كان مدخولها كفيلاً بأن يجعلني أربي أولادي تربية مرفهة.. وأن أعيش حياة ميسورة.. أيامها لم يكن يوجد منافس لنا.. أما الآن فأنا أقضي معظم وقتي من الصباح إلى الظهيرة.. أبيع ما هو قديم، وبعض ما يأتي به الصاغة من خواتم وفضيات.. وبعد أن رحلت زوجتي عن هذه الحياة في نهاية التسعينات.. صار المحل هو المكان الوحيد الذي ألجأ إليه خشية المرض.. فالجلوس في المنزل لا يأتي إلا به.
وفي أثناء حديثي معه دخل رجل باكستاني ليقطع حديثنا.. كان يحمل في يده صرة من كيس به محارم ورقية معدودة.. كل منديل به مجموعة من الخواتم الفضية المزينة بالأحجار الكريمة.. ليأخذ منها عبدالرزاق قسماً بعد أن عاينها سريعاً.. على أن يعود له الرجل مرة ثانية لينظر عبدالرزاق رأيه فيها إن كان سيشتريها منه أم لا.
بعد انصراف الرجل الباكستاني دخل رجل أخر يبدو أن عمره في الخمسينات.. فسلم عليه عبدالرزاق سلاماً حاراً.. وقال لي: هذا صديقي راشد الفاضل.. هو أصم.. لكنه يعرف كل شيء.. أقضي معه الكثير من الوقت من أيام زمان إلى حد الآن.. ثم طلب مني عبدالرزاق أن آخذ لهما صورة تذكارية.
سألت عبدالرزاق إن كان يحن إلى العراق أو مازال يتواصل مع أهله هناك.. فقال: عشت في البحرين ووجدت نفسي مواطناً فيها في الستينات.. سكنت بداية حياتي في حي الفاضل، ومن الفاضل سكنت القضيبية، إلى أن استقررت أخيراً في الرفاع ومازلت فيها.. تزوجت عراقية ورزقت منها خلدون وثلاث بنات.. كنت أتواصل مع الأقارب هناك وأزورهم كلما سنحت لي الفرصة.. لكن منذ سنوات عديدة انقطع الاتصال معهم.. فغالبية أهلنا ومعارفنا قد هجروا العراق إلى البلاد الأوروبية.. وبعضهم قد مات.. وصارت بلدي البحرين.
محل عبدالرزاق مازالت فيه مجموعة من الفضيات القديمة.. هو أشبه ما يكون بمعرض صور قديمة.. قصاصات من الصحف الأجنبية والعربية يحتوي غالبيتها على صوره مع والده في محلهم القديم.. صور لأصدقائه ومعارفه وأحفاده.. أخرى لزبائنه الذين قدروا طيبته وعلاقته بهم.. وصور تذكارية تزين الجدران من خلفه.. صور جميلة تحمل تاريخاً عن حقبة اندثرت أو تكاد.