من أرض السعادة وعاصمة الابتكار الخليجي "الإمارات"، رفعنا أشرعة الحديث حيث لم نضع أسقفاً تحجب الفكر، ومضينا على مراكبنا متنقلين من ضفة خليجية إلى أخرى، ما تعين في حديث حول الإمارات لا ينتهي ووقفات خليجية متفرقة، وكانت هذه الرحلة الشيّقة مع الدكتور محمد بن هويدن، الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الإمارات العربية المتحدة،وضيفنا متخصص في العلاقات بين الصين والشرق الأوسط، وقد ألَّف كتاباً يبحث علاقات الصين بالدول العربية والخليجية بعنوانChina's Relations with Arabia and the Gulf، كما نشر سبع دراسات محكّمة، تركّز على سياسة الصين تجاه قضايا الشرق الأوسط، وعلاقات دول الخليج بالدول العظمى، وعلاقات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بإيران.
الإمارات في نسيج العلاقات الإقليمية
وكان حديثنا معه إماراتياً بامتياز ما جعل أولى المحطات التي نفتتح بها لقاءنا هذا، الإمارات في نسيج العلاقات السياسية الخليجية إقليمياً ودولياً، إذ حدثنا بن هويدن بقوله "من دون أدنى شك تعتبر دولة الإمارات اليوم لاعباً إقليمياً مؤثراً وطرفاً له دور عالمي، وما يميز دولة الإمارات في هذا المجال هو وجود العناصر الثلاث الرئيسية التي تجعل من الدول مؤثرة سياسياً؛ وهي: وجود القناعة لدى القيادة الإماراتية بأنها صاحبة دور إقليمي وعالمي، والاعتراف الخارجي بأهمية الدور الإماراتي، ووجود الإمكانات التي تخول الدولة للعب هذا الدور"، مشيراً إلى أن هذه العناصر الثلاث متواجدة في الحالة الإماراتية، وهي التي ساعدت على صنع المكانة القيادية لدولة الإمارات في نطاقها الإقليمي؛ فالقيادة الإماراتية ممثلة في صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة تحمل رؤية واضحة لجعل الإمارات تتبوأ مركز الصدارة الإقليميفي المجال التنموي وفي الإمكانات السياسية والعسكرية التي تتمتع بها الدولة، حسب قوله.
وأضاف بن هويدن "هناك الاعتراف الدولي بأهمية دولة الإمارات من أطراف دولية ترى في الإمارات شريك رئيس في تحقيق الأمن والاستقرار العالميين؛ فالأمم المتحدة تنظر للإمارات على أنها طرف مهم في تقديم المساعدات الإنسانية، والغرب يعتبر الإمارات شريكاً استراتيجياً في الحرب على الإرهاب، وكبريات اقتصاديات العالم تنظر للإمارات كمركز ثقل اقتصادي إقليمي، وكل من يبحث عن النجاح ينظر إلى دولة الإمارات على أنها سبيله في تحقيق حلمه الذي لا يستطيع تحقيقه في بلده الأصلي". واستطرد "هناك الإمكانات والقدرات التي تتمتع بها دولة الإمارات والتي تؤهلها للعب دور القيادة، من قدرات سياسية واقتصادية وعسكرية؛لذلك الإمارات دولة مهمة ومؤثرة، وهي اليوم مع المملكة العربية السعودية أكثر الدول الخليجية تأثيراً".
وانطلاقاً من حيث انتهى، والحديث عن التأثير كان حرياً بـ"ضفاف الخليج" الوقوف على قوة شبكات العلاقات العامة الإماراتيةوتسويق ما لم يكن يخطر على البال، وعن دورتلك القوة الناعمة في القضايا السياسية مع إيران، إذ أكد بن هويدت على حضور القوة الناعمة بقوة، مشيراً إلى أنها من جعل"الإمارات مقصداً لأناس من أكثر من 200 جنسية، ومنطقة جذب للسياح والاستثمارات، ونموذجاً رائعاً للشباب العربي كي يعيش فيه ويحقق حلمه، ومركزاُ للإبداع والابتكار"، لافتاً إلى أنالإمارات الأولى عربياً من حيث القوة الناعمة.
وما لبث أن استدرك بقوله "ليس بالضرورة أن تنجح القوة الناعمة في كل الحالات، وهذا ما جعل فكرة جوزيف ناي حول القوة الناعمة تلقى انتقادات من المتخصصين بأن القوة الناعمة ليست هي الفاصلة في معظم الحالات، لذلك جاء ناي بمفهوم القوة الذكية ليكون بين القوة الناعمة والقوة الخشنة.الإمارات كانت دائماً الرئة التي يتنفس بها الإيرانيون، وهم يعلمون ذلك، ولكن الإمارات ما كان لها أن تقف في صف المشاهدين لما تفعله إيران وتغض البصر عن تدخلاتها الصارخة في الشأن العربي من دون أن تقول كلمتها". موضحاً أنه كان بالإمكان للإمارات أن تتجاهل ما تفعله إيران حماية للمصالح الإماراتية معها، ولكن لم تفعل؛ فإيران دولة يحركها الفكر الطائفي في علاقتها مع المنطقة الخليجية، ومثل هذا الفكر لا يمكن أن تسمح به الإمارات لأن يتوغل في النسيج الاجتماعي الخليجي المعروف عنه التعايش السلمي بين السنة والشيعة، لافتاً إلى أن "توغله سيؤدي إلى تمزيق هذا النسيج ويلحق بالتالي الضرر بالأمن والاستقرار القائم في المنطقة كما حدث في العراق وبدعم مباشر من إيران. ولذلك فالإمارات في علاقتها مع إيران تستخدم القوة الذكية، والتي تفتح من خلالها يدها إلى إيران الراغبة في العيش بسلام، ولكنها تضرب بيد من حديد عندما تتمادى إيران بعيداً عن احترام المواثيق والأعراف الدولية القائمة. وفي مسألة الجزر فإن القناعة الإماراتية هي بأن الحل السياسي هو الأمثل لمثل هذه القضية، فلا نية لدولة الإمارات إلى السير بعيداً عن هذا التوجه العقلاني".
وانتقالاً للشأن الإيراني المتصدر لأغلب أطروحاتنا الخليجية كونه المصدر الأهم لما تشهده المنطقة من تهديدات، وبالتزامن مع انشغال تفكير أغلب مراقبي الخليج السياسيين بالانتخابات الإيرانية القادمة، حاولنا التعرف على توقعات بن هويدن بشأن التغيرات المحتمل حدوثها في المشهد الإيراني، الذي لم يعتقد بدوره أن سيكون تداعيات للإنتخابات الإيرانية على موقف إيران لاسيما تجاه سوريا واليمن، منوهاً إلى أنه "حتى لو ذهب من يسمون بالمعتدلين وأتى المتشددين، فإن الخط العام في إيران، ما زال يُحكم من المرشد الأعلى وقيادات الحرس الثوري، التي لن تحدث تغيراً واضحاً في الموقف الإيراني". بينما وقف على نقطة مهمة حول "كيفية تعامل إيران مع الولايات المتحدة والرئيس ترمب"، موضحاً أن "هذا التعامل سيحدد معالم التكتيك الإيراني"، من خلال الإجابة عن سؤال "هل ستُبقى إيران على تعاونها في الملف النووي؟ أم أنها قد تتشدد وتفرض رؤية جديدة وتدخل في مواجهة مع واشنطن؟"، مضيفاً "هذا ما سنراه بعد الانتخابات، وهو ما يمكن أن يحدد الكثير حول مستقبل هذه المنطقة".
وبالتحول إلى الصين، فقد كان من اللافت الجهود الخليجية الأخيرة لمشروع طريق الحرير، وأن الإمارات تخطو نحو طريق الحرير بأفاق فكرية واقتصادية، ما دعا للبحث عن نظرة تقييمية من بن هويدن بصفته مختصاً بالشأن الصيني لجدوى طريق الحرير للخليج العربي اقتصادياً وسياسياً، والذي أفاد بدوره أنه "ما من شك أن ما يسمى بمبادرة الحزام والطريق التي تدفع بها الصين في علاقتها الاقتصادية مع العالم الخارجي، ستؤثر بشكل كبير على شكل النظام الاقتصادي والسياسي العالمي". لافتاً إلى أن "هناك مجموعة من الأهداف الاقتصادية والسياسية التي تحاول الصين تحقيقها من خلال هذه المبادرة. إلاَّ أنه رغم أن دول الخليج العربية ستحقق بعض المكاسب الاقتصادية، إلا أنها ستمثل خسارة سياسية لها في حال نجاحها". وكان هذا رأياً مثيراً أردنا له مزيد من التوضيح ليستطرد ضيفنا قائلاً "تتمثل الخسارة السياسية في أن هذه المبادرة تركز على إيران وليس دول الخليج العربية كمحور التقاء أساسي؛ فالطريق البحري لهذه المبادرة لا يمر عبر الخليج العربي بل أن نقطة التقاءه البحرية هي الساحل الكيني وليس الخليجي، والحزام البري يجعل إيران نقطة أساسية من نقاط النقل فيه"، وأشار إلى انعكاس ذلك على الدور الإيراني في المنطقة بقوله "إيران ستقوى مع هذه المبادرة، وعلاقاتها مع دول الجوار -مثل باكستان وتركيا وسوريا والعراق والهند- يمكن أن تتعزز بسبب دخول هذه الدول في دائرة المبادرة، وتقوية إيران على حساب الولايات المتحدة ليس من المصلحة الخليجية، لذلك أعتقد أن المبادرة لن تحقق المكسب السياسي لدول الخليج العربية، وعلى دول الخليج العربية أن تدرس هذا الموضوع بجد، وتضع تصورها المشترك للتعامل معه.!!
النشاط العسكري الإماراتي
وكانت لنا وقفة للحديث حول النشاط العسكري الإماراتي من كوسوفو إلى أفغانستان إلى ليبيا إلى اليمن، وحول ما إذا كان نهجاً جديداً في علاقات الإمارات الدولية أم جراء تبعات إقليمية، فأجابنا بن هويدن أن "دولة الإمارات اتخذت لنفسها خط دعم الأمن والاستقرار العالميين" مستنداً على مقولة الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان عندما قال "البترول العربي ليس بأغلى من الدم العربي"، إذ يشير بن هويدن أن "الشيخ زايد قال كلمته في وقت كانت دولة الإمارات مازالت حديثة العهد، ولكن لم يرضى إلا أن يقف مع الحق". مشيراً إلى أن ما تفعله الإمارات اليوم هو "نتاج مثل هذه القناعة الإماراتية،بالطبع التطورات السياسية لها تأثير على توجهات الدول، وعالمنا العربي مليء بالأزمات التي تجعل من الدولة المسؤولة واجب التحرك لمواجهتها. ودولة الإمارات تتحرك كسائر دول العالم من منظور المصلحة الوطنية، ومصلحة الإمارات الوطنية ترتبط بالحفاظ على أمن واستقرار المنطقة العربية من تهديدات الأطراف الساعية للإخلال بالوضع القائم". وأضاف "هناك أطراف عدة تحاول العبث بأمن المنطقة من قوى إقليمية مثل إيران، إلى جماعات إرهابية مثل القاعدة وداعش وجماعة الإخوان المسلمين، لذلك كان من المنطقي أن تتحرك الإمارات في هذا الإطار؛ لمنع تحقيق أهداف تلك الجماعات".مؤكداً على أن الإمارات تتبنى مشروعاً حضارياً لا يمكن أن ينجح إذا ما سُمح للمشاريع التدميرية الأخرى أن تعمل في منطقتنا؛ لذلك تتحرك الإمارات دفاعاً عن مشروعها القائم على دعم التنمية والنهوض بالإنسان العربي من خلال توفير بيئة تمنح فرص للإبداع والنجاح، وليست بيئة تنشر التطرف والكره والإرهاب.
شؤون إقليمية
وحول الأزمة السورية تساءلنا حول إذا ما كان ثمة انفراجة أو بصيص أمل نحوها بعد التحرك العسكري للرئيس الأمريكي "ترمب"، ولم يعتقد بن هويدن ذلك، منوهاً إلى أن "الروس يدركون أن الأمريكان مهما عملوا في سوريا لن يستطيعوا قلب التوازن العسكري هناك، نظراً لتواجد الروس فيها، وأفضل ما يمكن تحقيقه هو خلق التوازن بينهما"، من جهة أخرى لفت إلى أن "الصين لا تمانع من أن تنشغل الولايات المتحدة ومعها روسيا في صراع في سوريا يبعدهما عن المساعي الصينية لتعزيز نهوضها السلمي وفرض سيطرتها على مناطق في بحر الصين الجنوبي وفي بحر الصين الشرقي". واستدرك قائلاً: "لا يعني هذا أن الأمور غير متجهة نحو التسوية؛ ولكن الانفراج يمكن أن يحدث في حال جلوس الروس والأمريكان مع بعضهم البعض والاتفاق على خارطة طريق للخروج من الأزمة السورية، غير ذلك فإن هذا الصراع لا يمكن أن يحل حتى عام 2024 حيث من المتوقع أن يفوز حزب "فلاديمير بوتن" بالانتخابات القادمة في روسيا العام المقبل؛ مما سيعطي "بوتن" فترة حكم إضافية إلى 2024".وأضاف أن "التحرك الأمريكي كان ضرورياً للحد من عبثية النظام السياسي في استخدام أسلحة غير تقليدية ضد المدنيين، وهي رسالة لجميع الأنظمة الدكتاتورية بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح بذلك أن يحدث، وربما أن هذه الضربة قد تُعجل من دفع الطرف الروسي والأمريكي إلى تحقيق تفاهمات لحل الأزمة؛ حيث يمكن أن تعطي الولايات المتحدة ورقة مهمة تستطيع استخدامها في الملف السوري".
ولم يفتنا أن نتعرف على دوائر صنع القرار الخليجية وكيف قرأت التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، إذ أشار بن هويدن أنه من الطبيعي أن تدعم دول الخليج العربي العمل الأمريكي كونه يحد من عبث النظام بالمدنيين، ويرسل رسائل قوية لإيران بأن الأمريكان مستعدون للتحرك باستخدام القوة العسكرية إذا ما اعتقدت الإدارة الأمريكية أن مصالحها تتضرر حتى في أماكن أخرى غير سوريا".
وألقينا مراسينا..
ووصلنا لضفاف الإمارات المبتهجة، مع الدكتور محمد بن هويدن، الأستاذ الذي لفتني طرحه في أكثر الندوات والمؤتمراتالتي التقيته فيها وأغلبها في"مركز الإمارات للسياسات". رجل يرى الأمور من زاوية مختلفة، وهو ما اكتشفته من خلال هذا اللقاء لاسيما في حديثه عن الصين، الذي خرج عن الحماسة التي لمستها عند نخب أخرى اندفعت لفتح آفاق التعاون على مصراعيها، وهو ما زادني اطمئناناً، أننا مهما لطمت بنا الأمواج وتأرجحت بسفينتنا يمنة ويسرة، فإن هناك ثمة رجل يفتح أفقاً جديدة، أو يقدم خارطة طريق مختلفة، ليس لاستقرار السفينة وحدها ونجاة ركابها وحسب، وإنما لتضع حداً للموج المتلاطم من كل صوب وناحية.