لا يقتصر عمل فريق مشروع نقل المعارف على رفد المكتبة العربية بترجمات لكتب ذات أهمية خاصة، من حيث موضوعها، بل يراعي أيضاً حاجة القارئ العربي إليها. من هذا المنطلق يواصل المشروع المنضوي تحت مظلة هيئة البحرين للثقافة والآثار إصدار كتبه التي انضم إليها، مؤخراً، كتاب "قصة الفن" لمؤلفه إرنست غومبرتش "1909-2001"، مترجماً عن الإنجليزية، وهو كتاب نال شهرة عالمية واسعة وخضع، عبر سنوات، لكثير من التحليل والنقد، حتى تم التعامل معه في نهاية المطاف كمرجع أساسي موثوق به في مجال تاريخ الفن.
لم يتردد إرنست غومبرتش في وضع استنتاجه الصادم في مقدمة كتابه، حيث قال "لا يوجد في الحقيقة شيء اسمه فن، بل يوجد فنانون فحسب"، ويبدو أن هذه العبارة الافتتاحية أثارت فضول ملايين القراء حول العالم لاكتشاف مقصد الكاتب وتبريره المناسب، فقد تمت إعادة طبع هذا الكتاب ستة عشرة مرة فتجاوز سبعة ملايين نسخة. ورغم هذا النجاح فإن الكاتب لم يكف عن إضافة اللوحات والملاحق في الطبعات المتلاحقة.
يلاحظ القارئ أن غومبرتش وضع كتابه موضع الموجه لأولئك الذي يشعرون بحاجة لتوجيه أولي في مجال الفن، وقد كان محقاً في ذلك، فقد اعتبر النقاد كتاب "قصة الفن" موسوعة ومرجعاً مهماً، لاسيما بوجود الصور والتفاصيل الدقيقة التي تقدم للقارئ دليلاً يمكن التعويل عليه لفهم الأعمال الفنية الفارقة بتسلسل زمني، مع مراعاة البعد الجغرافي، بدءاً بما قبل التاريخ والشعوب البدائية وحضارات أمريكا القديمة، ثم الحضارة المصرية وبلاد ما بين النهرين واليونان والرومان، ثم الحضارة الإسلامية، وفنون شعوب الصين وأوروبا وانتهاءً بأعمال النصف الأول من القرن العشرين. وقد يعجب القارئ حين يكتشف ما بذله الكاتب من جهد مضاعف ليسرد قصة الفن كما فعل، فقد أخذ على نفسه أن يدعم كل عمل فني ورد في الكتاب بالصور، مختاراً لذلك ما يعتبره أعمالاً فنية حقيقية. لقد أراد أن يكون اختياره مستنداً إلى قيمة العمل في عيون النقاد والجمهور، إضافة إلى رؤيته الشخصية.
يحمل الكتاب بين طياته مجموعة مميزة من الأعمال الفنية التي قدمها لنا أعظم الفنانين على مر التاريخ، وقد تعرض الكاتب لمختلف المراحل الفنية منذ العصر البدائي الذي تبقى الأسئلة قائمة حوله، إذ الفن، شأنه شأن اللغة، من حيث افتقارنا لمعرفة كيفية نشأته، رغم الدلالات المادية التي بقيت شاهدة عليه كأبنية المعابد والمنازل والتماثيل أو حتى الرسومات والصور.
ينتقل الكاتب من فن العصور البدائية إلى ما أسماه فن الأبدية في مصر وبلاد الرافدين وكريت، مستشهداً بأهرامات الجيزة والتماثيل والرسوم والرموز التي تشرح طقوساً روحية أو دينية كما تقدم في ذات الوقت نموذجاً على عظمة المعمار ودقة التصوير، علاوة على الحس الفني العالي.
ويتناول الكاتب فنون اليونان من القرن السابع إلى القرن الخامس قبل الميلاد ويعرض صوراً مميزة لتماثيل وقطع وأوان تعكس الأسلوب الهندسي الدقيق، ثم يصف اليونان بمملكة الجمال حين يتطرق للعالم اليوناني من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول -أي عقب ما يدعى يقظة الفن الكبرى- وقد بدت الأعمال الفنية في هذا العصر أكثر تنوعاً وتعقيداً من خلال الاهتمام بالتفاصيل بشكل أكبر.
يسرد غومبرتش، بعد ذلك، تاريخ فن الرومان والبوذيين واليهود والمسيحيين من القرن الأول إلى القرن الرابع الميلادي، مستشهداً بمدينة بومبي الرومانية التي حوت شواهد على الفن الهيليني، ورغم ذلك فإن روما في تلك الفترة قد غيرت المشهد الفني إلى حد ما، وأصبحت حينها كما يذكر الكاتب "سيدة العالم" وذلك يعود لبراعة الرومانيين فيما يتعلق بالهندسة المدنية ومجال تخطيط الطرق والقنوات، ولعل أقواس النصر في إيطاليا وفرنسا وشمال أفريقيا وآسيا تشهد على عدوى فن العمارة الرومانية.
في الفصل السابع يستحضر غومبرتش فنون الشرق، مركزاً على الإسلام والصين. ولقد بين كيف برع مبدعو الفن الإسلامي بخيالهم الرحب ومهاراتهم اليدوية الفائقة في الزخرفة الدقيقة "الأرابيسك"، مقدما أمثلة على ذلك من القصور الإسلامية، والرسوم اليدوية على السجاد، إضافةً إلى المنمنمات، ثم اتجه نحو الفنون الصينية وما فيها من تداخل مع الدين الذي أثر في ما أنجز من تماثيل ورسوم على الحرير والمحورات الخشبية.
ويستفيض الكاتب في فصول الكتاب اللاحقة في شرح وتفصيل الأعمال الفنية في أوروبا من القرن السادس إلى القرن الحادي عشر، مبرزاً ما له علاقة مع الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة، ثم في القرن الثاني عشر الذي شهد بداية تطور الأسلوب القوطي في أوروبا.
فبعد أن كان معمار وروعة مباني الكاتدرائيات دليلاً على الازدهار أدى التطور المدني وتزايد عدد السكان النازحين للمدن إلى انتقال تلك الجماليات المعمارية إلى البلاطات والقصور.
أما حقبة ما بعد القرن الثالث عشر أو ما يعرف بعصر النهضة، والتي شهدت خلالها إيطاليا أولاً ثم العالم نهضة ثقافية فقد أفرد له الكاتب عددا من الفصول ضمت أروع النماذج والأعمال الفنية التي اتسمت بالواقعية ثم أخذت تعكس وجوداً للنزعة الباروكية التي بلغت أوجها في أواخر القرن السادس عشر.
وفي الفصول الأخيرة تناول الكاتب مسألة الانقطاع في التراث في كل من إنجلترا وأمريكا وفرنسا التي مهدت لدخول الفن في منعطف مهم عقب الثورة الفرنسية عام 1789 واستمرت حتى أوائل القرن التاسع عشر. وقد عزز الكاتب بياناته بصور لأبرز أعمال تلك المرحلة. أما مرحلة ما أسماه الكاتب الثورة الدائمة في القرن التاسع عشر فقد شهدت نشاطاً ملحوظاً في البناء، فيما تردت أوضاع الفنانين عقب الثورة الصناعية التي أدت إلى تراجع الحرف اليدوية، كما أدى إنتاج السلع الرخيصة المقلدة إلى تدهور الذوق العالم، ويشير غومبرتش هنا إلى وصول الأمر إلى انعدام الثقة المتبادل بين الفنانين والجمهور.
ويستعرض الكاتب في نهاية الكتاب وضع المشهد الفني في أواخر القرن التاسع عشر والحركات الثلاث الأبرز التي نشأت فيه: التكعيبية ورائدها سيزان ومصدرها فرنسا، والتعبيرية على يد فان غوخ والتي لاقت استجابة كبيرة في ألمانيا، فضلاً عن البدائية التي جاء بها غوغان.
وبالوصول إلى القرن العشرين يطرق الكاتب باب الفن التجريبي في نصفه الأول، ثم يجد نفسه أمام الحداثة التي لم يكن يرغب في الاعتراف بها لما فيها من التباس بين قصة الفن كما تصورها الكاتب وبين تأريخ الأزياء!
ختاما، وبالعودة إلى تقديم الطبعة الأخيرة "السادسة عشرة 1994" نذكر ما أشار إليه الكاتب في نهايته من أن "أي مكسب في الفن من ناحية معينة، قد يفضي أيضاً إلى خسارة من ناحية أخرى". هذا الأمر يترك عند القارئ تساؤلات قد يتوصل إلى أجوبتها مع بلوغه الصفحة الأخيرة من كتاب "قصة الفن".
الجدير بالذكر أن مشروع نقل المعارف قد أصدر، قبل "قصة الفن" الكتب التالية: "تفكر؛ مدخل أخاذ إلى الفلسفة" للفيلسوف سايمن بلاكبرن، "هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم، بحث في الخيال المكون" لأستاذ الفكر اليوناني بول فاين، "لغات الفردوس" للمؤرخ موريس أولندر، كتاب "التحليل النفسي علما وعلاجا وقضية" لعالم التحليل النفسي مصطفى صفوان. "الزمن أطلالاً" لعالم الانتروبولوجيا مارك أوجيه، "أصول الفكر الإغريقي" للمؤرخ جان بيير فرنان، "الأبجديات الثلاث اللغة والعدد والرمز" للباحثة الفرنسية كلاريس هيرنشميت، "نهاية العالم كما نعرفه" لعالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل فالرشتاين.