حوار محمد راشد

الحوار مع د.محي الدين اللاذقاني، ليس حوارا عاديا، فهو معارض عنيد، وناقد عتيد. يتشعب الحوار مع الكاتب والشاعر والمفكر السوري من دهاليز السياسة إلى جمال الأدب وعمق الاختلاف بين المدارس النقدية ليرسم ربما صورة فسيفسائية لمرحلة تاريخية ليس الغوص فيها بأصعب من الغوص في وجدان كاتب عرف بـ"طواحين الكلام" عبر عموده الصحفي، وقادته طواحين الشعر أحيانا إلى السجن، فعزف "منفردا على الجرح" وغنى "خارج السرب" لينعى "انتحار أيوب".

يطير الحمام الذي "لا يحب الفودكا" ليحط في لندن منفاه وليكون هذا الحوار لـ"الوطن".


- بدأت حياتك الأدبية في الشعر السياسي .. لماذا توقفت؟

حين نكون في سن المراهقة والشباب الاول يكون الغضب عارما. وفي مجتمعاتنا حيث القمع والاستبداد يصبح الشعر السياسي وسيلة مقاومة تحتاج لشجاعة ربما كنت أمتلكها لأن أول أمسية شعرية أقيمها بجامعة حلب وأقرأ فيها شعرا سياسيا غاضبا قادتني للسجن، ومواجهة مباشرة مع السلطة والمتزمتين على حد سواء. ومع الوقت تتعمق تجربتنا الحياتية والشعرية وندرك أن الشعر السياسي المباشر لا يمكن أن يعيش أبعد من مرحلته، وأن التصفيق بمدرجات الجامعة والمظاهرات لا يغني عن عمق الفكر والتجربة الإنسانية المؤلمة لذا قلت مرة في أمسية في لندن إني حين بدأت أكتب الشعر الوجداني العميق لم أجد حولي مصفقين.

- في كتابك "آباء الحداثة العربية" نسبت تأسيسها للجاحظ والتوحيدي. ونفيت نسبها للأدباء الجدد إن صحت التسمية، وناصبك أدباء وشعراء معاصرون العداء نتيجة آرائك، هل كان كتابك حجرأ في مياه راكدة؟

منذ البدايات لم أكن مقتنعا بطروحات مدرسة بيروت حيث الخال والحاج وأدونيس أصروا على أن أصل الحداثة فرنسي وأنها تعود لآباء قصيدة النثر الفرنسيين. وكان رأيي الذي طورته لاحقا إلى كتاب أن نضارة النص هي الأساس فالنصوص القادرة على مقاومة الزمن والايحاء لكل الأجيال ولو بعد مئات السنين هي الحداثة الحقيقية، لذا اخترت الجاحظ والحلاج والتوحيدي آباء حقيقيين للحداثة العربية. وكان بذهني أن اثني بثلاثة فلسفة كابن رشد والفارابي والكندي لكن الوقت لم يتوفر لمتابعة الحفر في هذا الطريق. ولدهشتي لقي كتاب "آباء الحداثة العربية" قبولا منقطع النظير وطبع عدة مرات في القاهرة وبيروت ودبي لأنه لامس وتراً في أذهان المتلقين الذين لم يكونوا مقتنعين مثلي بطروحات مدرسة بيروت التي سيطرت على المشهد الشعري والنقدي دون وجه حق وفقط لأن بيروت كانت أكثر حرية من غيرها وأقدر على الترويج الإعلامي.

- ملماذا هاجمت قصيدة النثر بل نفيت الصفة الشعرية عنها؟

لم أهاجم قصيدة النثر في تجلياتها الاولى مع الماغوط بل كنت معجبا بقدراتها التصويرية، وهذا ما أفردت له فصلا في رسالتي للدكتوراه عن الشعر العربي المعاصر. لكن هاجمت الخلط الذي رافقها لاحقا حين ظهرت مئات الاسماء تكتب "أي كلام" بلا روح ولا مخيلة ولا إيقاع داخلي وتسميه قصيدة نثر وهذا ما قاد إلى فوضى كبيرة وتشويه للذائقة الإبداعية وموت للشعر والنقد معا لذا ترى تراجعه في المشهد الأدبي. ولولا أن عبدالله الغذامي أنقذ الموقف بكتاب "النقد الثقافي" لكانت الأمور تدهورت أكثر على صعيد النقد الأدبي.

- يرى فيك الشيخ د.عائض القرني امتدادا للجاحظ في زماننا؟ ما علاقتك الفكرية بالجاحظ وهل تأخذك السياسة بعيدا عن الإبداع الأدبي؟

أولا أشكر الشيخ الشاعر عائض القرني على هذا التقريظ الذي قد لا أستحقه، لكن الشيخ كان دقيق الملاحظة في التشبيه فالجاحظ سياسي وأديب وابن كل الأزمنة، وقد كان أحد كبار المِؤثرين في سياسة عصره ومشهدها الفكري. وهو احد رؤوس المعتزلة الذين قارعوا الأشاعرة والإمامية، وكان مسموع الكلمة لدرجة أن الخليفة المأمون أراد أن يعينه كبيرا للكتاب وهو منصب يشبه منصب رئيس الوزراء في أيامنا لكنه ولجرأته رفض التعيين وهرب من بغداد للبصرة لأنه لم يشأ أن يحسب على كتبة السلطان بل ظل مفكرا حرا يرفض القيود والتقيد بسياسات لا يقرها عقله ولا موقفه وهذا من أسرار عظمته كمثقف كبير ومؤثر في كل العصور.

- عدت إلى قريتك سرمدا بعد 30 عاما من المنفى. كيف تغيرت القرية وما الذي تغير حينها في محي الدين اللاذقاني؟

سرمدا ملحمة لوحدها ففي جبالها آثار سبع حضارات وأطول عمود روماني لا يوجد مثله إلا في روما. ولا أكتمك أني لم أعرفها حين عدت إليها أول مرة ولا ثاني مرة منذ عامين حين تحررت من سطوة زبانية بشار الكيماوي. لقد تطورت الآن لتصبح مركزا تجاريا واقتصاديا هاما في المنطقة. كيف أعرفها وقد غادرتها وفيها ثلاثة آلاف نسمة وعدت إليها وفيها الآن أكثر من 150 ألفا. الأمر لا يتوقف عند الزيادة السكانية بل عند ما يمحوه الزمن قسرا فالأصدقاء تفرقوا والمعالم بهتت والبستان الذي زرعته مع أبي وكنت اخفي فيه الكتب الممنوعة قطع النازحون أشجاره ليتدفؤوا في سنوات الثورة. ولك أن تضيف ما يصنعه الزمن بنا حين نغترب ونشاهد ونكتشف فتتغير عندنا الكثير من القناعات بل وربما يصبح عندنا ذائقة مختلفة تعجز أحيانا عن التقاط روح المكان.

س: هل "الحمام لا يحب الفودكا" عملك المسرحي الوحيد؟ وما إسقاطاتها؟

ج - كان لي قبلها محاولة مسرحية اسميتها "حانة جنبار" لكن لم أطبعها وهي عن مجتمع صغير بالعاصمة الجزائرية يجتمع في حانة صغيرة ويحكي أفراده وهم جميعا من كبار السن نفس النكات يوميا ويكررونها ويضحكون عليها وكأنهم يسمعونها للمرة الأولى، أما "الحمام لا يحب الفودكا" فقد ولدت فكرتها في سجن حلب وهو السجن الذي دخلته بسبب قصيدة كان لها تفسيرات وارتدادات كثيرة. في هذه المسرحية كنت أرى البلد كله سجنا كبيرا وحاكمه سجان يتسلى بلعبة الديمقرطية في زمن نتائج الـ99،99 أيام أنور السادات وحافظ الأسد وقد نشرتها لأول مرة في حلقات بصحيفة العرب اللندنية ثم في كتاب ولم أتوقع لها انتشارا إلى أن قابلت بالعاصمة البريطانية رئيس وزراء السودان السابق الصادق المهدي وحكى لي أنهم في سجن كوبر كانوا يقطعونها إلى صفحات ويتبادلونها بالدور لأنها النسخة الوحيدة التي وصلتهم. وطبعا فرحت، فنحن نكتب لنجد صدى ما نكتبه ولم أجد أجمل من ذلك الصدى عند سجين سياسي شهير يطري تلك المسرحية السياسية.

- ما رؤيتك للحراك الادبي والابداعي الحالي في العالم العربي؟

أخشى أن أقول لك إني أتحرج من الإجابة حاليا عن هذا السؤال لأني انقطعت منذ سنوات عن المتابعة الدقيقة وهناك أسماء شابة ظهرت أخشى أن أغمطها حقها إن قلت رأيا سلبيا بتراجع الحراك الادبي والإبداعي كثيرا عما كان في ستينات القرن الماضي.

- انت تصنف بأنك ثائر قبل الثورة.. فما أسباب معارضتك للنظام قبل الثورة؟

في سوريا الأسد لا تحتاج لأسباب تدفعك للثورة فكل ما فيها يدفعك لإشعال عشرين ثورة حيث المحسوبية والرشوة وتكميم الأفواه وسطوة الأمن الغبي. على الصعيد الشخصي أحسست بالظلم حين نجحت بتفوق في الجامعة لكنهم رفضوا تعييني معيدا وعينوا البعثيين الفاشلين، ثم أردت العمل فمنعوا توظيفي بشهادتي المتفوقة كمدرس. إذا جمعت الشخصي مع المناخ العام تدرك أن الثورة السورية تأخرت كثيرا وكان يجب أن تقوم منذ زمن طويل.

- بعد الثورة تبدو وكأنك تحاول الوقوف على مسافة واحدة من مختلف السوريين، ورغم ذلك لم تسلم من اتهامات الجميع. هناك أقوال بأن رئاسة الائتلاف المعارض عرضت عليك، فهل هذا صحيح؟

لا يوجد مثل السوريين في الشخصنة ورمي الاتهامات وحب الزعامة وقد حاولت في كل مراحل حياتي أن أكون مستقلا لكنك حين تصر على استقلالك في بلد غير ديمقراطي تصبح عدوا للجميع، خصوصا إن كان لك بعض الآراء التي لا تعجب الأغلبية كدفاعك عن المظلومين من أعراق أخرى عانت الكثير من الاضطهاد.

أما عن الائتلاف فقد عرض علي دخوله من بداياته لكني رفضت بعد تجربة المجلس الوطني الفاشلة، وقلت لمن فاتحني وهو من مؤسسيه إن نفس الأشخاص بنفس الأفكار سيوصلون الإئتلاف أو أي تنظيم لنفس النتيجة، وهذا بكل أسف ما كان وقد كان هناك حملة في مواقع التواصل بدأها د.رشيد الطوخي والتحق بها كثيرون بخصوص ترشيحي لرئاسة الائتلاف لكني قلت لهم وقتها إن من يحبني لا يجوز أن يقذف بي في هكذا مستنقع.

- هل من ثمن دفعه محي الدين اللاذقاني خلال الثورة على حساب الإبداع الادبي؟

كل ثمن مقابل الحرية والكرامة لشعب مظلوم يهون. صحيح أني انقطعت عن الكتابة الأدبية وانهمكت في الشأن السياسي لكن هذه تعتبر إضافة وليست خسارة، فقد توصلت لأفكار ومعلومات وعلاقات تجعلني مؤهلا لكتابة تاريخ هذه الثورة العظيمة - اليتيمة التي حاربها كل أشرار العالم فلم تمت وما زالت تتجلى بأشكال شتى رغم قسوة القتل والتهجير، وجرائم الحرب التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا. هذه الثورة هي القصيدة المثلى والكتاب الأوفى، فكيف أصنف نفسي خاسرا وقد عشت لأشهدها وكسبت مودة أناس لم يسمعوا بي لأن النظام بعد منفاي كان يمنع كتبي وذكر اسمي في وسائل إعلامه. وأعتبر أني لو لم أعش هذه الثورة لضاع العمر سدى.

- تقول في مقابلاتك ومنشورراتك إن الشعب السوري سينتصر في النهاية، ما نظرتك للتطورات في المستقبل؟

لست منجما ولا قارئ فنجان لكني ابن هذا الشعب الأبي وأعرف معاناته الطويلة وحلمه القديم بالكرامة والحرية رغم القيود التي فرضت عليه وسياسة تخديره بالشعارات الزئفة. لو كانت الثورة السورية ستموت لماتت من بدايات التدخل الايراني السافر ثم بعده التدخل الروسي لكنها بالعكس فرغم ما خططوه لإغراقها بالمرتزقة والمتطرفين والمحتلين عاشت مرحلة تحولات أليمة وتحولت من ثورة حرية ضد مستبد الى حركة تحرر وطني من محتل اجنبي "اثنين بدل الواحد" وفي قضايا التحرر الوطني يخبرنا التاريخ أنه ما من شعب عجز عن نيل استقلاله.

- ما علاقتك باختيار علم الثورة السورية، ولماذا هذا العلم بالذات؟

كنا في أول مؤتمر للثورة السورية في انطاليا بتركيا في ايار 2011 ووقتها ولكثرة الشبيحة هناك حوصرنا داخل الفندق من حوالي 500 شبيح غاضب فخاف البعض، لكني اقترحت أن نواصل أعمالنا ونتجاهل من هم في الخارج.

وبالفعل ترأست الجلسة وتابعنا حواراتنا وكنا حوالي 350 شخصا بالداخل. وفي الجلسة الختامية قلت للجميع لابد لنا من شعار ورمز. واقترحت أن نتبنى دستور 1950 وعلم الاستقلال (علم الثورة الحالي) وبما أن الرموز متغيرة من زمن لآخر قلت للحضور إن في علم الاستقلال ثلاث نجوم سنعتبر كل نجمة تخلصاً من احتلال، الأولى من العثمانيين والثانية من الاستعمار الفرنسي والثالثة للتخلص من الاستعمار الأسدي وهوأسوأ انواع الاستعمار. ووافق الحضور بأغلبيتهم على الاقتراح وظهر علم الاستقلال كعلم للثورة منذ ذلك التاريخ وطبعا لم يمر الأمر بسلام لأننا كنا في تركيا ومعنا الكثير من الإخوان المسلمين والمنافقين وأول من نهض منهم محمود السيد الدغيم الذي طالبني بالاعتذار لأنه لايعتبر العثمانيين احتلالاً. وطبعا رفضت وقلت مهما كنا نطالب بعلاقات ممتازة مع تركيا لا يمكن أن نسمح بتزوير التاريخ أمام أعيننا وساد هرج ومرج بالقاعة وتحدث كثيرون بين موافق ورافض على اعتبار العثمانبيين احتلال. والمهم أنه تم تبني علم الثورة واستطعت بجهد أن أوصل المؤتمر لنتيجة طيبة واقتراع حر لهيئة تنفيذية كي لا يشمت بنا الذين يحاصروننا في الخارج من الشبيحة ومساعديهم من الأتراك المؤيدين للعصابة الأسدية.


- هل تتعرض للمقاطعة من فضائيات وصحف العربية بسبب آرائك السياسية؟

طبعا هذا يحدث بوفرة في الفترة الأخيرة خصوصا حين طال أمد الثورة. وبدأت بعض الفضائيات والمنابر الاعلامية تغير سياساتها لتتأقلم مع مرحلة خف فيها الزخم الثوري، وأغلب من يقاطعونني هم الحريصون على أجنداتهم الإقليمية والخفية الذين لا يريدون سماع صوت سوري مستقل.

- هل تنوي زيارة البحرين مرة أخرى؟

أول مرة زرت فيها البحرين قبل سنوات طويلة كانت بدعوة كريمة من معالي الشيخة مي آل خليفة لإلقاء محاضرة عن الحلاج بين القرامطة والمتصوفين، ولم تكن حينها قد أصبحت وزيرة. وفي تلك المحاضرة شعرت بفرح غامر فقد كان الجمهور غزيراً يملأ القاعة وما حولها، ولم يخيب قناعتي بوجود تيار تنويري قوي في تلك البلاد سبق منطقته وعصره. وهي زيارة لم أكررها ولا أعرف إن كنت سأكررها فهذا برهن الظروف والتطورات.