حاورته: فاطمة عبدالله خليل
قال د. عبدالله المدني الخبير في العلاقات الدولية والشأن الآسيوي والمتخصص في شوؤن شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا إن "لدى الهند الكثير مما تقدمه لدول الخليج في مجالات مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال وغيرها كونها تملك جهازاً استخبارياً منيعاً، وخبرة طويلة، ومكانة مرموقة في الصناعة الفضائية التي يمكن عن طريقها الرصد والتحليل والمتابعة والملاحقة".
وتحدث المدني في حوار لـ"الوطن" عن عمق العلاقات الخليجية الهندية سياسياً واقتصادياً، والتحديات التي اعترتها في تاريخها الطويل.
من جهة أخرى، أوضح المدني أهمية التحالفات الاستراتيجية الهندية الدولية للهند، واحتمالات أن تعود بانعكاسات إيجابية على دول الخليج العربي لما أصبحت الهند عليه من إمكانيات ومقدرات عسكرية وعلمية، فيما أكد أنه ليس ثمة احتمال لظهور تهديد أمني مع الهند حتى في ظل التحالف مع دول تعيش دول الخليج العربي حالة صراع دائم معها.
وتطرق الحديث مع المدني إلى القضايا الإنسانية المرتبطة بالتعامل مع العمالة الآسيوية، والمخاوف "غير الواقعية" من تأثر الهوية الخليجية بهذه العمالة.
من علاقات فاترة إلى دافئة
وقال المدني إن "تطورات ايجابية كبيرة ومشهودة طرأت على العلاقات الخليجية ــ الهندية، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وقيام النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، حيث شهدت الهند نفسها تطورات داخلية غير مسبوقة لجهة انفتاحها على العالم وتحرير اقتصادها وإعادة صياغة سياساتها الخارجية، فكان هذا كفيلاً بصعودها في مختلف المجالات وإطلاق العقال لمواهب وابتكارات وإبداعات الهنود في العلوم والصناعة والتجارة والاقتصاد من تلك التي حبستها السياسات الاشتراكية لعقود من الزمن".
وأردف "رأينا كم تقدمت الهند في غضون ثلاثة عقود وتحولت من دولة شبه مفلسة مالياً إلى سادس اقتصاد في العالم، من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، مستشهداً بمصادر صندوق النقد الدولي التي تشير إلى أن الهند ستحتل المركز الخامس بدلاً من فرنسا في غضون ثلاث سنوات". وأرجع المدني ذلك التقدم الاقتصادي في الهند إلى "تحسن مستويات المعيشة، وتوسع حجم الطبقة الوسطى، وتزايد أعداد المستثمرين الأجانب، إلى جانب الاكتفاء الذاتي في الطعام والدواء، وجلوس البلاد على عرش صناعة البرمجيات والأقمار الفضائية في العالم".
وكشف المدني أن لهذه التطورات "انعكاس ملحوظ على علاقات الهند مع مختلف القوى الإقليمية والعالمية، ومنها دول الخليج صاحبة الروابط التاريخية العميقة منذ آلاف السنين مع الأمة الهندية".
ووقف المدني على أهم ما استرعى الانتباه في سياق العلاقات الخليجية الهندية وهو "تحول العلاقات بين الهند والمملكة العربية السعودية من علاقات فاترة تسودها الهواجس والشكوك بسبب أكثر من عامل، إلى علاقات تعاون دافئة شاملة مختلف المجالات، وتحديداً منذ زيارة الراحل الكبير المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز لنيودلهي في يناير 2006، وحلوله كضيف شرف في احتفال الهند بعيدها الوطني، إذ لم تسبق هذه الزيارة الملكية سوى زيارة يتيمة قام بها المغفور له الملك سعود لبومباي ودلهي في ديسمبر 1955".
وحول الدوافع الجيوسياسية للتعاون الخليجي-الهندي والأهمية الاستراتيجية لهذه العلاقات قال المدني، "الهند دولة كبيرة بمساحتها وسكانها وتنوعها الثقافي وإرثها الحضاري ومكانتها بين الأمم كقوة صاعدة، وما يحدث فيها لا بد أن يؤثر على دول المنظومة الخليجية بحكم الجوار الجغرافي، والإرث التاريخي، ووجود الملايين من الهنود في مختلف الدول الخليجية، ممن يساهمون في مشاريع التنمية أو يقدمون الخدمات اليومية المتنوعة.
ومن أجل تلك الأسباب مجتمعة فإن شراكة استراتيجية خليجية ــ هندية طويلة المدى الخليجي وعلى قاعدة المصالح البينية مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أن المخاطر التي يواجهها الطرفان، والملفات التي تأسر اهتماماتهما متماثلة".
وعلى المستوى الاقتصادي أفاد بأن "الإحصاءات الرسمية تبين أن التجارة البينية في الاتجاهين آخذة في التوسع كماً وكيفاً، لا سيما بعد أن صار القطاع الخاص الهندي هو المتحكم في الإنتاج والتصدير، وبعدما صارت الهند بؤرة العالم في صناعة البرمجيات وما يتصل بها من تقنيات ووسائط".
وأضاف "صحيح أن العلاقات التجارية بين الطرفين ظلت مستمرة على الدوام منذ زمن الآباء والأجداد ولم تتأثر قط بالمتغيرات السياسية، لكن الصحيح أيضاً هو حدوث انكماش في حجم الإستيراد من الهند في بعض الفترات لصالح دول أخرى، بسبب رداءة المنتج الهندي في ظل هيمنة القطاع العام".
وعن المشاريع المشتركة بين دول الخليج العربية والهند أوضح المدني "يقول لنا التاريخ إن الهند ساهمت في أكثر من مشروع تنموي ناجح في الخليج زمن الطفرة النفطية (سد جازان نموجاً)، وهي اليوم منخرطة في أكثر من بلد خليجي، لاسيما أن شركاتها الهندسية الكبرى تملك من المزايا ما لا تملكه غيرها مثل معرفة المنطقة والقرب الجغرافي وسهولة تكيف عمالها مع البيئة الخليجية، وعدم وجود حواجز لغوية (كما في حالة الشركات الصينية)".
لكن ذلك كله لم يثن المدني عن القول "إن دول الخليج تأخرت كثيراً في استثمار البعد الثقافي والروابط التاريخية التجارية باعتبارها مشتركات كثيرة ومهمة في بناء روابط ومصالح عليا مع الشعب الهندي والدولة الهندية"، مشيراً إلى أن "من نتائج ذلك أن سعت دول أخرى من خارج المنطقة للحلول مكان دول الخليج. ومرجع ذلك مجاملة الدول الخليجية لباكستان (غريمة الهند اللدودة)". وكان من بين البحوث الأكاديمية التي نشرها المدني في هذا السياق "العلاقات الاقتصادية بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي" و"باكسـتان كعامل في العلاقات السـعودية – الهندية".
لا خوف من التحالفات الهندية
وعن التحالف الاستراتيجي الذي يلوح في الأفق ليضم كل من الهند وأمريكا وإسرائيل، قال المدني "ككل دولة مستقلة في العالم وطامحة للعب دور ريادي في قضايا العالم ومشكلاته، وضعت الهند نصب أعينها منذ فجر استقلالها أن تنتهج السياسة التي تحقق مصالحها دون إملاءات خارجية". مشيراً إلى أن "القارئ لتاريخ الهند الحديث سيجد أن هذه البلاد سعت منذ زمن رئيس وزرائها الأول "جواهر لال نهرو" إلى تبني مثل هذه السياسات مع إعادة توجيهها وتأطيرها بحسب المستجدات الدولية والإقليمية".
وأردف "كلنا يتذكر كيف أن الهند قادت فكرة تأسيس حركة عدم الانحياز كنوع من حماية الذات ضد تربص جارتيها الباكستانية والصينية بها، قبل أن تفرض المتغيرات عليها الجنوح نحو تعاون استراتيجي واسع مع الاتحاد السوفياتي، ثم نبذ السياسة الأخيرة بالانفتاح على الولايات المتحدة في شتى المجالات"، معتقداً أن "ما تقوم به نيودلهي اليوم لجهة توثيق علاقاتها مع واشنطن وطهران وتل أبيب، يقع ضمن سياسة تعزيز المصلحة الهندية العليا".
وفسر المدني تعزيز المصلحة الهندية العليا بقوله أن التحالف الهندي مع الولايات المتحدة وإسرائيل "ليس موجهاً ضد أحد، بل لا يمكن أن يكون موجهاً ضد عرب الخليج أو الفلسطينيين، خصوصاً أننا نتحدث هنا عن علاقة ثلاثية الأضلاع فيما الأضلاع الثلاث متنافرة أيديولوجياً".
واستبعد المدني أن يكون لذلك التحالف أي تداعيات على العلاقات الهندية مع الخليج العربي، بعدما طرحت "الوطن" مخاوف حول التعارض مع المصالح الخليجية خصوصاً من ناحية العلاقة مع إيران وفي ظل العلاقات التاريخية الهندية الإسرائيلية، معلقاً على تلك المخاوف بقوله "كل ما في الأمر أن الهند بتقربها من إيران تريد كسبها إلى جانبها في صراعها مع باكستان، وأيضا كسبها فيما خصّ الملف الأفغاني الذي يحظى باهتمام متزايد من قبل الهنود. أما تقرب الهند من تل أبيب فمحوره التعاون في مجال الصناعات العسكرية الدقيقة كون إسرائيل تحتل موقعاً متقدماً في تكنولوجيات الأسلحة والاتصالات على المستوى العالمي".
وأضاف "لا مناص هنا من التذكير بأن الهند كانت داعمة وفية للقضية الفلسطينية، ورفضت كافة الإغراءات للانفتاح على الدولة العبرية والتعاون معها، إلى أن جاء وقت انفتح فيه أصحاب القضية أنفسهم على تل أبيب وعقدوا معها اتفاقات السلام".
وبخصوص تنامي النفوذ الصيني حول الهند، بيّن المدني أنه "رغم تحسن العلاقات الهندية ــ الصينية على المستوى السياسي، ووجود تعاون اقتصادي وعلمي وتقني بين البلدين، وتبادل الزيارات على أعلى المستويات بين الجانبين، فإن ثمة شكوك وهواجس قائمة، خصوصاً في ظل احتلال الصين لآلاف الكيلومترات من أراضي شمال الهند منذ عام 1962، واستمرار مطالبتها بالسيادة على أجزاء من الولايات الهندية الشمالية، ناهيك عن تقديم الصينيين الدعم العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والدبلوماسي المستمر لباكستان".
وكشف المدني "حقيقة مساعي بكين للانتشار والتوسع والهيمنة في مياه المحيط الهندي، والتي كان آخر تجلياتها بناء قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي، ومن قبله تأسيس قاعدة مماثلة في ميانمار"، مشيراً إلى أن "الهند ردت من جانبها على التحركات الصينية على أكثر من صعيد، فراحت تنافس الصين في إقامة قواعد للإتصالات والأقمار الصناعية في دول تعتبرها الصين ضمن مجالها الحيوي مثل فيتنام، وراحت تغدق المساعدات على بنغلاديش للحيلولة دون وقوعها في أحضان الصينيين الذين يزودونها بالأسلحة، لكن الأهم من كل هذا هو تماهي سياسات نيودلهي مع سياسات واشنطن حول محاصرة الصعود الصيني عسكرياً واقتصادياً".
التحديات أرضية مناسبة
وتطرقت "الوطن" إلى ما تعرضت له كل من دول الخليج العربية والهند من إرهاب وتطرف، فضلاً عن الجريمة عبر الحدود، وغسيل الأموال والمخدرات وتهريب الأسلحة مما يهدد استقرار الطرفين، متسائلةً عن آفاق التعاون البيني إزاء المهددات الأمنية المرتقبة. وعلّق المدني بالقول "هذه هي المخاطر والتحديات المشتركة التي تهدد استقرار الهند مثلما تهدد استقرار دول الخليج العربية، وهي تهيئ الأرضية المناسبة لتعاون خليجي ــ هندي مثمر، بل تجعل من هذا التعاون مطلباً ملحاً".
وكشف المدني أن "دول الخليج العربي أبرمت في السنوات الأخيرة -على هامش زيارة قادتها لنيودلهي- اتفاقات مع الهند حول مكافحة الإرهاب والفكر المتشدد، وغسيل الأموال، والاتجار بالبشر، وتبادل المعلومات الأمنية، وتهريب السلاح، وعمليات مكافحة القرصنة البحرية وغيرها". مشيراً إلى أن "لدى الهند الكثير مما تقدمه لدول الخليج في المجالات المشار إليها؛ كونها تملك جهازاً استخبارياً منيعاً، وخبرة طويلة، ومكانة مرموقة في الصناعة الفضائية التي يمكن عن طريقها الرصد والتحليل والمتابعة والملاحقة".
من جهة أخرى، استبعد المدني أن ينعكس التطور الهندي المتسارع في المقدرات العسكرية بشكل سلبي على دول الخليج العربي أو يشكل تهديداً لها، معلقاً على ذلك بقوله إن "الذين يكررون بمناسبة وبدون مناسبة الحديث عن تهديد هندي مستقبلي لدول الخليج، أناس مصابون بداء "الهندوفوبيا" إن صح التعبير"، مشيراً إلى أن "هؤلاء لم يقرؤوا التاريخ جيداً، ولا يعرفون أن الهند لم تكن يوماً ما في تاريخها الممتد عبر آلاف السنين دولة غازية أو مهددة للغير، بل كانت هي نفسها على الدوام ضحية لغزوات الآخرين. وإذا كانت الهند تطور قدراتها العسكرية اليوم فإنها تفعل ذلك أولاً من باب حقها السيادي والوطني، وثانياً من باب حماية نفسها من قوتين جاثمتين على حدودها الشمالية (الصين) وحدودها الغربية (باكستان)".
صدعوا رؤوسنا بمخاطر العمالة
وفتحت "الوطن" مع المدني محوراً بات يشغل اهتمام الرأي العام الخليجي على نحو لافت في السنوات الأخيرة، وهو العمالة الآسيوية، وكان المدني ألّف قبل سنوات كتاباً بعنوان "العمالة الآسيوية في الخليج .. العمالة الهندية نموذجاً"، وبحكم قربه من الموضوع وتخصصه، طرحت تساؤلات عن موقفه من موضوع العمالة الهندية في دول الخليج وتزايدها المستمر، وكيف ينظر إليه، لاسيما في ظل ارتفاع وتيرة الكتابات والأطروحات المحذرة من هذه الظاهرة، فأجاب بقوله "نعم، وضعت قبل عدة سنوات مؤلفاً كان فريداً من نوعه آنذاك عن العمالة الآسيوية في دول مجلس التعاون الست، مع التركيز على العمالة الهندية باعتبارها الأقدم تاريخياً والأكثر عدداً، وقد عانيت الكثير في سبيل جمع الإحصاءات والبيانات الضرورية".
وأردف "هناك، بطبيعة الحال، دعوات صدرت في الماضي، وتعود للصدور اليوم بنبرة أقوى حول ضرورة التخلص من العمالة الأجنبية، خصوصاً في ظل المتغيرات الاقتصادية الحالية وما أفرزته من بطالة في صفوف المواطنين الشباب"، مشيراً إلى أنه "مبدئياً مع فكرة أن المواطن أحق بخيرات وطنه من الأجنبي، وأنه يجب أن تكون له الأفضلية على من سواه لجهة التعيين في الوظائف المتاحة في القطاعين العام والخاص، ووفقا لهذه الفكرة يجب على الجهات المعنية الاستغناء عن الموظف الأجنبي، أياً كانت جنسيته، إذا ما توفر المواطن المؤهل الذي يستطيع الحلول مكانه. لكن هناك الكثير من المهن والحرف التي لا يرغب المواطن في شغلها لقلة مردودها المادي أو لأسباب تتعلق بالعادات الاجتماعية، بينما يقبل عليها العامل الأجنبي ويؤدي متطلباتها بإتقان وبمقابل زهيد". وأورد في هذا السياق مثالاً "المهن والحرف التي لا يمكن بحرنتها أو سعودتها أوتكويتها؛ لأن المجتمع ليس مهيئاً للعملية بعد، ولأن المجتمع يحتاج إلى ثقافة جديدة لن تتحقق إلا على المدى الطويل وبمجهود دؤوب جبار. وإلى أن يتحقق ذلك فإن العمالة الآسيوية التي تمتهن الحرف اليدوية البسيطة؛ كعامل المخبز والسباكة والنجارة والحدادة والصباغة والتمديدات الكهربية، أو تلك التي تمتهن الحرف الشاقة؛ كالبناء وتنظيف الشوارع وسقي المزارع وقيادة الشاحنات ورصف الطرق وتنظيف مرافق الصرف الصحي، تظل ضرورية؛ لأن الاستغناء عنها يخلق فراغاً من الصعب ملؤه بسهولة".
وضرب مثلاً على ذلك بالقول "جربت دبي قبل عقدين من الزمن أو نحو ذلك، الاستغناء فجأة عن 30 ألف عامل آسيوي، فكانت النتيجة أن توقفت كل الأنشطة وساد التذمر في أوساط المواطنين الذين لم يجدوا مخبزاً يشترون منه الخبز، أو سباكاً يصلح مواسيرهم، أو عامل بناء يرمم بيوتهم، أو كهربائياً يساعدهم في التمديدات الكهربائية، أو ميكانيكياً يصلح سياراتهم، أوعاملاً يغسل عرباتهم ألخ ألخ".
لكنه أورد مثلاُ معاكساً من الكويت التي كان لها تجربة مختلفة تماماً، بقوله "حاولت الحكومة ذات مرة أن تنشط الحركة التجارية والعقارية في البلاد؛ فسمحت لكل الوافدين باحضار أسرهم دون شروط أو ضوابط، ثم اكتشفت أنه مقابل تربح التجار من حركة الشراء وتربح الملاك من تأجير عقاراتهم، زاد الضغط على البنية التحتية والخدمية، واختل ميزان البلاد التجاري مع الدول الأخرى بسبب ارتفاع وتيرة الاستيراد للوفاء بمتطلبات الأسر الوافدة. وإثر ذلك، قررت الحكومة الكويتية التراجع عن قرارها فأغضبت ذوي المصالح من تجار وملاك".
وفي البعد الإنساني قال المدني "ما يزعجني حقيقة أن البعض يتعامل مع العامل الآسيوي الفقير، الذي ترك بلاده وتغرب بعيداً عن أهله وذويه من أجل لقمة عيش شريفة، بعنصرية مقيتة، بل يلجأ هذا البعض إلى الاعتداء عليه يدوياً أو لفظياً عند ارتكابه لأقل هفوة. وهناك من يصدع رؤوسنا يومياً بمخاطر العمالة الآسيوية (الهندية تحديداً بسبب ضخامتها) على هويتنا وثقافتنا، ومخاطر الإختلال السكاني. لهؤلاء أقول إن هويتك وثقافتك إذا كان سيؤثر فيهما ويشوههما عامل هندي فقير، فبئس الهوية والثقافة تلك، لأنها حينذاك ستكون هوية فخارية"، مشيراً إلى أن هذا العامل "الذي يطالب البعض بإبعاده هو من البلد الذي فتح ذراعيه لآبائكم وأجدادكم من الرعيل الخليجي الأول في زمن ما قبل النفط.. زمن القحط والمجاعة والجهل والمرض، ووفر لهم فرص الاتجار والإثراء والتعليم والعلاج وغيرها دون منة".
وأضاف "إن هذا المعدم إذا كان فعلاً يمثل خطراًعليكم فبإمكانكم إعادته إلى بلده، ذلك أنه لم يعبر البحر سباحة ويدخل بلادكم خلسة أو بطريقة غير مشروعة؛ فأنتم من أتيتم به بتأشيرة صالحة من خلال الموانئ والمطارات المعروفة، وبموجب عقود عمل صحيحة، وبإمكانكم إلغاء عقده وإعادته، وثقوا أن بلده لن يشتكيكم في مجلس الأمن".
ولفت المدني إلى أن "ثمة ما يطرح بمناسبة ومن دون مناسبة من أجل إيغار صدر المواطن ضد العمالة الوافدة، عبر نشر حجم تحويلاته المالية إلى بلده". متسائلاً "ما هو المطلوب يا ترى من عامل معدم جاء ليعمل ويوفر أقصى ما يقدر عليه للإيفاء بمستلزمات أسرته في وطنه الأم؟ وما شأن المواطن الخليجي في طريقة إنفاق العامل لمال حصل عليه من عرق جبينه؟" ومتسائلاً أيضاً "إذا ما كان هؤلاء الذين ينزعون لحرمان العامل الفقير من حرية التصرف في أمواله وإرسالها لزوجته وأبنائه، يعقدون مقارنة مع المواطن إن كان يرضى هذا لنفسه".
يذكر أن د.عبدالله المدني، مشارك ولقرابة عشرين عاماً مضى في العديد من المؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية ذات العلاقة بالشأن الآسيوي والعلاقات العربية - الآسيوية، إلى جانب حوار الحضارات، والمؤتمرات التي تتناول قضايا الأمن والتنمية. ومُنح المدني العضوية الفخرية في جمعية الصداقة البحرينية – الهندية (2007)، تقديراً لجهوده في تعزيز العلاقات بين البلدين والشعبين الصديقين. يحسب له أيضاً كتابة آلاف المقالات التحليلية باللغتين العربية والإنجليزية نشرت في عدد كبير من الصحف، فضلاً عن الدوريات الأكاديمية التي تصدرها الجامعات الآسيوية، إذ عكف على إعداد ونشر العديد من الأبحاث الأكاديمية في نطاق تخصصه العلمي. وقد ألف المدني جملة من الكتب منها ما يتعلق بالهند ومحيطها الإقليمي؛ معالم الدور الهندي في الخليج (2002)، والعمالة الآسيوية في الخليج: العمالة الهندية نموذجاً (2004)، والمشهد الآسيوي: نافذة على أوضاع آسيا في الألفية الثالثة (2006)، ودول الخليج العربية في علاقاتها مع الأمم الآسيوية (2009 بالعربية والإنجليزية)، والتأثيرات المتبادلة ما بين اللغة العربية واللغة الهندية ولغات أخرى (2009).
قال د. عبدالله المدني الخبير في العلاقات الدولية والشأن الآسيوي والمتخصص في شوؤن شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا إن "لدى الهند الكثير مما تقدمه لدول الخليج في مجالات مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال وغيرها كونها تملك جهازاً استخبارياً منيعاً، وخبرة طويلة، ومكانة مرموقة في الصناعة الفضائية التي يمكن عن طريقها الرصد والتحليل والمتابعة والملاحقة".
وتحدث المدني في حوار لـ"الوطن" عن عمق العلاقات الخليجية الهندية سياسياً واقتصادياً، والتحديات التي اعترتها في تاريخها الطويل.
من جهة أخرى، أوضح المدني أهمية التحالفات الاستراتيجية الهندية الدولية للهند، واحتمالات أن تعود بانعكاسات إيجابية على دول الخليج العربي لما أصبحت الهند عليه من إمكانيات ومقدرات عسكرية وعلمية، فيما أكد أنه ليس ثمة احتمال لظهور تهديد أمني مع الهند حتى في ظل التحالف مع دول تعيش دول الخليج العربي حالة صراع دائم معها.
وتطرق الحديث مع المدني إلى القضايا الإنسانية المرتبطة بالتعامل مع العمالة الآسيوية، والمخاوف "غير الواقعية" من تأثر الهوية الخليجية بهذه العمالة.
من علاقات فاترة إلى دافئة
وقال المدني إن "تطورات ايجابية كبيرة ومشهودة طرأت على العلاقات الخليجية ــ الهندية، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وقيام النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، حيث شهدت الهند نفسها تطورات داخلية غير مسبوقة لجهة انفتاحها على العالم وتحرير اقتصادها وإعادة صياغة سياساتها الخارجية، فكان هذا كفيلاً بصعودها في مختلف المجالات وإطلاق العقال لمواهب وابتكارات وإبداعات الهنود في العلوم والصناعة والتجارة والاقتصاد من تلك التي حبستها السياسات الاشتراكية لعقود من الزمن".
وأردف "رأينا كم تقدمت الهند في غضون ثلاثة عقود وتحولت من دولة شبه مفلسة مالياً إلى سادس اقتصاد في العالم، من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، مستشهداً بمصادر صندوق النقد الدولي التي تشير إلى أن الهند ستحتل المركز الخامس بدلاً من فرنسا في غضون ثلاث سنوات". وأرجع المدني ذلك التقدم الاقتصادي في الهند إلى "تحسن مستويات المعيشة، وتوسع حجم الطبقة الوسطى، وتزايد أعداد المستثمرين الأجانب، إلى جانب الاكتفاء الذاتي في الطعام والدواء، وجلوس البلاد على عرش صناعة البرمجيات والأقمار الفضائية في العالم".
وكشف المدني أن لهذه التطورات "انعكاس ملحوظ على علاقات الهند مع مختلف القوى الإقليمية والعالمية، ومنها دول الخليج صاحبة الروابط التاريخية العميقة منذ آلاف السنين مع الأمة الهندية".
ووقف المدني على أهم ما استرعى الانتباه في سياق العلاقات الخليجية الهندية وهو "تحول العلاقات بين الهند والمملكة العربية السعودية من علاقات فاترة تسودها الهواجس والشكوك بسبب أكثر من عامل، إلى علاقات تعاون دافئة شاملة مختلف المجالات، وتحديداً منذ زيارة الراحل الكبير المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز لنيودلهي في يناير 2006، وحلوله كضيف شرف في احتفال الهند بعيدها الوطني، إذ لم تسبق هذه الزيارة الملكية سوى زيارة يتيمة قام بها المغفور له الملك سعود لبومباي ودلهي في ديسمبر 1955".
وحول الدوافع الجيوسياسية للتعاون الخليجي-الهندي والأهمية الاستراتيجية لهذه العلاقات قال المدني، "الهند دولة كبيرة بمساحتها وسكانها وتنوعها الثقافي وإرثها الحضاري ومكانتها بين الأمم كقوة صاعدة، وما يحدث فيها لا بد أن يؤثر على دول المنظومة الخليجية بحكم الجوار الجغرافي، والإرث التاريخي، ووجود الملايين من الهنود في مختلف الدول الخليجية، ممن يساهمون في مشاريع التنمية أو يقدمون الخدمات اليومية المتنوعة.
ومن أجل تلك الأسباب مجتمعة فإن شراكة استراتيجية خليجية ــ هندية طويلة المدى الخليجي وعلى قاعدة المصالح البينية مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أن المخاطر التي يواجهها الطرفان، والملفات التي تأسر اهتماماتهما متماثلة".
وعلى المستوى الاقتصادي أفاد بأن "الإحصاءات الرسمية تبين أن التجارة البينية في الاتجاهين آخذة في التوسع كماً وكيفاً، لا سيما بعد أن صار القطاع الخاص الهندي هو المتحكم في الإنتاج والتصدير، وبعدما صارت الهند بؤرة العالم في صناعة البرمجيات وما يتصل بها من تقنيات ووسائط".
وأضاف "صحيح أن العلاقات التجارية بين الطرفين ظلت مستمرة على الدوام منذ زمن الآباء والأجداد ولم تتأثر قط بالمتغيرات السياسية، لكن الصحيح أيضاً هو حدوث انكماش في حجم الإستيراد من الهند في بعض الفترات لصالح دول أخرى، بسبب رداءة المنتج الهندي في ظل هيمنة القطاع العام".
وعن المشاريع المشتركة بين دول الخليج العربية والهند أوضح المدني "يقول لنا التاريخ إن الهند ساهمت في أكثر من مشروع تنموي ناجح في الخليج زمن الطفرة النفطية (سد جازان نموجاً)، وهي اليوم منخرطة في أكثر من بلد خليجي، لاسيما أن شركاتها الهندسية الكبرى تملك من المزايا ما لا تملكه غيرها مثل معرفة المنطقة والقرب الجغرافي وسهولة تكيف عمالها مع البيئة الخليجية، وعدم وجود حواجز لغوية (كما في حالة الشركات الصينية)".
لكن ذلك كله لم يثن المدني عن القول "إن دول الخليج تأخرت كثيراً في استثمار البعد الثقافي والروابط التاريخية التجارية باعتبارها مشتركات كثيرة ومهمة في بناء روابط ومصالح عليا مع الشعب الهندي والدولة الهندية"، مشيراً إلى أن "من نتائج ذلك أن سعت دول أخرى من خارج المنطقة للحلول مكان دول الخليج. ومرجع ذلك مجاملة الدول الخليجية لباكستان (غريمة الهند اللدودة)". وكان من بين البحوث الأكاديمية التي نشرها المدني في هذا السياق "العلاقات الاقتصادية بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي" و"باكسـتان كعامل في العلاقات السـعودية – الهندية".
لا خوف من التحالفات الهندية
وعن التحالف الاستراتيجي الذي يلوح في الأفق ليضم كل من الهند وأمريكا وإسرائيل، قال المدني "ككل دولة مستقلة في العالم وطامحة للعب دور ريادي في قضايا العالم ومشكلاته، وضعت الهند نصب أعينها منذ فجر استقلالها أن تنتهج السياسة التي تحقق مصالحها دون إملاءات خارجية". مشيراً إلى أن "القارئ لتاريخ الهند الحديث سيجد أن هذه البلاد سعت منذ زمن رئيس وزرائها الأول "جواهر لال نهرو" إلى تبني مثل هذه السياسات مع إعادة توجيهها وتأطيرها بحسب المستجدات الدولية والإقليمية".
وأردف "كلنا يتذكر كيف أن الهند قادت فكرة تأسيس حركة عدم الانحياز كنوع من حماية الذات ضد تربص جارتيها الباكستانية والصينية بها، قبل أن تفرض المتغيرات عليها الجنوح نحو تعاون استراتيجي واسع مع الاتحاد السوفياتي، ثم نبذ السياسة الأخيرة بالانفتاح على الولايات المتحدة في شتى المجالات"، معتقداً أن "ما تقوم به نيودلهي اليوم لجهة توثيق علاقاتها مع واشنطن وطهران وتل أبيب، يقع ضمن سياسة تعزيز المصلحة الهندية العليا".
وفسر المدني تعزيز المصلحة الهندية العليا بقوله أن التحالف الهندي مع الولايات المتحدة وإسرائيل "ليس موجهاً ضد أحد، بل لا يمكن أن يكون موجهاً ضد عرب الخليج أو الفلسطينيين، خصوصاً أننا نتحدث هنا عن علاقة ثلاثية الأضلاع فيما الأضلاع الثلاث متنافرة أيديولوجياً".
واستبعد المدني أن يكون لذلك التحالف أي تداعيات على العلاقات الهندية مع الخليج العربي، بعدما طرحت "الوطن" مخاوف حول التعارض مع المصالح الخليجية خصوصاً من ناحية العلاقة مع إيران وفي ظل العلاقات التاريخية الهندية الإسرائيلية، معلقاً على تلك المخاوف بقوله "كل ما في الأمر أن الهند بتقربها من إيران تريد كسبها إلى جانبها في صراعها مع باكستان، وأيضا كسبها فيما خصّ الملف الأفغاني الذي يحظى باهتمام متزايد من قبل الهنود. أما تقرب الهند من تل أبيب فمحوره التعاون في مجال الصناعات العسكرية الدقيقة كون إسرائيل تحتل موقعاً متقدماً في تكنولوجيات الأسلحة والاتصالات على المستوى العالمي".
وأضاف "لا مناص هنا من التذكير بأن الهند كانت داعمة وفية للقضية الفلسطينية، ورفضت كافة الإغراءات للانفتاح على الدولة العبرية والتعاون معها، إلى أن جاء وقت انفتح فيه أصحاب القضية أنفسهم على تل أبيب وعقدوا معها اتفاقات السلام".
وبخصوص تنامي النفوذ الصيني حول الهند، بيّن المدني أنه "رغم تحسن العلاقات الهندية ــ الصينية على المستوى السياسي، ووجود تعاون اقتصادي وعلمي وتقني بين البلدين، وتبادل الزيارات على أعلى المستويات بين الجانبين، فإن ثمة شكوك وهواجس قائمة، خصوصاً في ظل احتلال الصين لآلاف الكيلومترات من أراضي شمال الهند منذ عام 1962، واستمرار مطالبتها بالسيادة على أجزاء من الولايات الهندية الشمالية، ناهيك عن تقديم الصينيين الدعم العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والدبلوماسي المستمر لباكستان".
وكشف المدني "حقيقة مساعي بكين للانتشار والتوسع والهيمنة في مياه المحيط الهندي، والتي كان آخر تجلياتها بناء قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي، ومن قبله تأسيس قاعدة مماثلة في ميانمار"، مشيراً إلى أن "الهند ردت من جانبها على التحركات الصينية على أكثر من صعيد، فراحت تنافس الصين في إقامة قواعد للإتصالات والأقمار الصناعية في دول تعتبرها الصين ضمن مجالها الحيوي مثل فيتنام، وراحت تغدق المساعدات على بنغلاديش للحيلولة دون وقوعها في أحضان الصينيين الذين يزودونها بالأسلحة، لكن الأهم من كل هذا هو تماهي سياسات نيودلهي مع سياسات واشنطن حول محاصرة الصعود الصيني عسكرياً واقتصادياً".
التحديات أرضية مناسبة
وتطرقت "الوطن" إلى ما تعرضت له كل من دول الخليج العربية والهند من إرهاب وتطرف، فضلاً عن الجريمة عبر الحدود، وغسيل الأموال والمخدرات وتهريب الأسلحة مما يهدد استقرار الطرفين، متسائلةً عن آفاق التعاون البيني إزاء المهددات الأمنية المرتقبة. وعلّق المدني بالقول "هذه هي المخاطر والتحديات المشتركة التي تهدد استقرار الهند مثلما تهدد استقرار دول الخليج العربية، وهي تهيئ الأرضية المناسبة لتعاون خليجي ــ هندي مثمر، بل تجعل من هذا التعاون مطلباً ملحاً".
وكشف المدني أن "دول الخليج العربي أبرمت في السنوات الأخيرة -على هامش زيارة قادتها لنيودلهي- اتفاقات مع الهند حول مكافحة الإرهاب والفكر المتشدد، وغسيل الأموال، والاتجار بالبشر، وتبادل المعلومات الأمنية، وتهريب السلاح، وعمليات مكافحة القرصنة البحرية وغيرها". مشيراً إلى أن "لدى الهند الكثير مما تقدمه لدول الخليج في المجالات المشار إليها؛ كونها تملك جهازاً استخبارياً منيعاً، وخبرة طويلة، ومكانة مرموقة في الصناعة الفضائية التي يمكن عن طريقها الرصد والتحليل والمتابعة والملاحقة".
من جهة أخرى، استبعد المدني أن ينعكس التطور الهندي المتسارع في المقدرات العسكرية بشكل سلبي على دول الخليج العربي أو يشكل تهديداً لها، معلقاً على ذلك بقوله إن "الذين يكررون بمناسبة وبدون مناسبة الحديث عن تهديد هندي مستقبلي لدول الخليج، أناس مصابون بداء "الهندوفوبيا" إن صح التعبير"، مشيراً إلى أن "هؤلاء لم يقرؤوا التاريخ جيداً، ولا يعرفون أن الهند لم تكن يوماً ما في تاريخها الممتد عبر آلاف السنين دولة غازية أو مهددة للغير، بل كانت هي نفسها على الدوام ضحية لغزوات الآخرين. وإذا كانت الهند تطور قدراتها العسكرية اليوم فإنها تفعل ذلك أولاً من باب حقها السيادي والوطني، وثانياً من باب حماية نفسها من قوتين جاثمتين على حدودها الشمالية (الصين) وحدودها الغربية (باكستان)".
صدعوا رؤوسنا بمخاطر العمالة
وفتحت "الوطن" مع المدني محوراً بات يشغل اهتمام الرأي العام الخليجي على نحو لافت في السنوات الأخيرة، وهو العمالة الآسيوية، وكان المدني ألّف قبل سنوات كتاباً بعنوان "العمالة الآسيوية في الخليج .. العمالة الهندية نموذجاً"، وبحكم قربه من الموضوع وتخصصه، طرحت تساؤلات عن موقفه من موضوع العمالة الهندية في دول الخليج وتزايدها المستمر، وكيف ينظر إليه، لاسيما في ظل ارتفاع وتيرة الكتابات والأطروحات المحذرة من هذه الظاهرة، فأجاب بقوله "نعم، وضعت قبل عدة سنوات مؤلفاً كان فريداً من نوعه آنذاك عن العمالة الآسيوية في دول مجلس التعاون الست، مع التركيز على العمالة الهندية باعتبارها الأقدم تاريخياً والأكثر عدداً، وقد عانيت الكثير في سبيل جمع الإحصاءات والبيانات الضرورية".
وأردف "هناك، بطبيعة الحال، دعوات صدرت في الماضي، وتعود للصدور اليوم بنبرة أقوى حول ضرورة التخلص من العمالة الأجنبية، خصوصاً في ظل المتغيرات الاقتصادية الحالية وما أفرزته من بطالة في صفوف المواطنين الشباب"، مشيراً إلى أنه "مبدئياً مع فكرة أن المواطن أحق بخيرات وطنه من الأجنبي، وأنه يجب أن تكون له الأفضلية على من سواه لجهة التعيين في الوظائف المتاحة في القطاعين العام والخاص، ووفقا لهذه الفكرة يجب على الجهات المعنية الاستغناء عن الموظف الأجنبي، أياً كانت جنسيته، إذا ما توفر المواطن المؤهل الذي يستطيع الحلول مكانه. لكن هناك الكثير من المهن والحرف التي لا يرغب المواطن في شغلها لقلة مردودها المادي أو لأسباب تتعلق بالعادات الاجتماعية، بينما يقبل عليها العامل الأجنبي ويؤدي متطلباتها بإتقان وبمقابل زهيد". وأورد في هذا السياق مثالاً "المهن والحرف التي لا يمكن بحرنتها أو سعودتها أوتكويتها؛ لأن المجتمع ليس مهيئاً للعملية بعد، ولأن المجتمع يحتاج إلى ثقافة جديدة لن تتحقق إلا على المدى الطويل وبمجهود دؤوب جبار. وإلى أن يتحقق ذلك فإن العمالة الآسيوية التي تمتهن الحرف اليدوية البسيطة؛ كعامل المخبز والسباكة والنجارة والحدادة والصباغة والتمديدات الكهربية، أو تلك التي تمتهن الحرف الشاقة؛ كالبناء وتنظيف الشوارع وسقي المزارع وقيادة الشاحنات ورصف الطرق وتنظيف مرافق الصرف الصحي، تظل ضرورية؛ لأن الاستغناء عنها يخلق فراغاً من الصعب ملؤه بسهولة".
وضرب مثلاً على ذلك بالقول "جربت دبي قبل عقدين من الزمن أو نحو ذلك، الاستغناء فجأة عن 30 ألف عامل آسيوي، فكانت النتيجة أن توقفت كل الأنشطة وساد التذمر في أوساط المواطنين الذين لم يجدوا مخبزاً يشترون منه الخبز، أو سباكاً يصلح مواسيرهم، أو عامل بناء يرمم بيوتهم، أو كهربائياً يساعدهم في التمديدات الكهربائية، أو ميكانيكياً يصلح سياراتهم، أوعاملاً يغسل عرباتهم ألخ ألخ".
لكنه أورد مثلاُ معاكساً من الكويت التي كان لها تجربة مختلفة تماماً، بقوله "حاولت الحكومة ذات مرة أن تنشط الحركة التجارية والعقارية في البلاد؛ فسمحت لكل الوافدين باحضار أسرهم دون شروط أو ضوابط، ثم اكتشفت أنه مقابل تربح التجار من حركة الشراء وتربح الملاك من تأجير عقاراتهم، زاد الضغط على البنية التحتية والخدمية، واختل ميزان البلاد التجاري مع الدول الأخرى بسبب ارتفاع وتيرة الاستيراد للوفاء بمتطلبات الأسر الوافدة. وإثر ذلك، قررت الحكومة الكويتية التراجع عن قرارها فأغضبت ذوي المصالح من تجار وملاك".
وفي البعد الإنساني قال المدني "ما يزعجني حقيقة أن البعض يتعامل مع العامل الآسيوي الفقير، الذي ترك بلاده وتغرب بعيداً عن أهله وذويه من أجل لقمة عيش شريفة، بعنصرية مقيتة، بل يلجأ هذا البعض إلى الاعتداء عليه يدوياً أو لفظياً عند ارتكابه لأقل هفوة. وهناك من يصدع رؤوسنا يومياً بمخاطر العمالة الآسيوية (الهندية تحديداً بسبب ضخامتها) على هويتنا وثقافتنا، ومخاطر الإختلال السكاني. لهؤلاء أقول إن هويتك وثقافتك إذا كان سيؤثر فيهما ويشوههما عامل هندي فقير، فبئس الهوية والثقافة تلك، لأنها حينذاك ستكون هوية فخارية"، مشيراً إلى أن هذا العامل "الذي يطالب البعض بإبعاده هو من البلد الذي فتح ذراعيه لآبائكم وأجدادكم من الرعيل الخليجي الأول في زمن ما قبل النفط.. زمن القحط والمجاعة والجهل والمرض، ووفر لهم فرص الاتجار والإثراء والتعليم والعلاج وغيرها دون منة".
وأضاف "إن هذا المعدم إذا كان فعلاً يمثل خطراًعليكم فبإمكانكم إعادته إلى بلده، ذلك أنه لم يعبر البحر سباحة ويدخل بلادكم خلسة أو بطريقة غير مشروعة؛ فأنتم من أتيتم به بتأشيرة صالحة من خلال الموانئ والمطارات المعروفة، وبموجب عقود عمل صحيحة، وبإمكانكم إلغاء عقده وإعادته، وثقوا أن بلده لن يشتكيكم في مجلس الأمن".
ولفت المدني إلى أن "ثمة ما يطرح بمناسبة ومن دون مناسبة من أجل إيغار صدر المواطن ضد العمالة الوافدة، عبر نشر حجم تحويلاته المالية إلى بلده". متسائلاً "ما هو المطلوب يا ترى من عامل معدم جاء ليعمل ويوفر أقصى ما يقدر عليه للإيفاء بمستلزمات أسرته في وطنه الأم؟ وما شأن المواطن الخليجي في طريقة إنفاق العامل لمال حصل عليه من عرق جبينه؟" ومتسائلاً أيضاً "إذا ما كان هؤلاء الذين ينزعون لحرمان العامل الفقير من حرية التصرف في أمواله وإرسالها لزوجته وأبنائه، يعقدون مقارنة مع المواطن إن كان يرضى هذا لنفسه".
يذكر أن د.عبدالله المدني، مشارك ولقرابة عشرين عاماً مضى في العديد من المؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية ذات العلاقة بالشأن الآسيوي والعلاقات العربية - الآسيوية، إلى جانب حوار الحضارات، والمؤتمرات التي تتناول قضايا الأمن والتنمية. ومُنح المدني العضوية الفخرية في جمعية الصداقة البحرينية – الهندية (2007)، تقديراً لجهوده في تعزيز العلاقات بين البلدين والشعبين الصديقين. يحسب له أيضاً كتابة آلاف المقالات التحليلية باللغتين العربية والإنجليزية نشرت في عدد كبير من الصحف، فضلاً عن الدوريات الأكاديمية التي تصدرها الجامعات الآسيوية، إذ عكف على إعداد ونشر العديد من الأبحاث الأكاديمية في نطاق تخصصه العلمي. وقد ألف المدني جملة من الكتب منها ما يتعلق بالهند ومحيطها الإقليمي؛ معالم الدور الهندي في الخليج (2002)، والعمالة الآسيوية في الخليج: العمالة الهندية نموذجاً (2004)، والمشهد الآسيوي: نافذة على أوضاع آسيا في الألفية الثالثة (2006)، ودول الخليج العربية في علاقاتها مع الأمم الآسيوية (2009 بالعربية والإنجليزية)، والتأثيرات المتبادلة ما بين اللغة العربية واللغة الهندية ولغات أخرى (2009).