- العالم العربي بات معرضاً أكثر من ذي قبل للانتهاك والسبي والسرقة

- التعدد الثقافي في الوطن العربي واقعة أساسية لا يجوز القفز عليها

- توظيف التعدد الثقافي بوعي في إغناء وإخصاب الثقافة العربية القومية

- التطرف الديني والاجتماعي والأخلاقي خطر يهيمن على الساحة العربية

- محاولة انتشال المجتمع من أنياب الضياع والخوف من انحرافه نحو التعصب

..

د. فهـد حسيـن

كما أن أوروبا لم تتطور وتصل إلى ما هي عليه الآن، إلا بعد أن أيقنت أنها بحاجة إلى الفلسفة والثقافة والفكر حيث المنظرون والفلاسفة هم من يستطيعون بناء المجتمعات وفق رؤى وخطط لانتشالها، فعمدوا إلى الفصل بين الدين والسياسة، وهو ما أشار إليه عبدالرحمن الكوكبي الذي دعا إلى التجديد في علم السياسة والممارسة السياسية، والتدقيق في العلاقة بين الدين والسياسة.

في الوقت نفسه، فإن الخطر المهيمن على الساحة العربية هو ما سمي بالتطرف الديني والاجتماعي والأخلاقي الذي برز بصورة واضحة في السنوات الأخيرة، حتى أن محمد أركون أشار بشكل واضح، إلى هذه العلاقة المخيفة حين يتحول الدين إلى قوة مسيطرة في العالم فإن هذه القوة تحرك المشهد السياسي الذي يؤثر على جميع المشاهد العربية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها.

وكما هو معروف، أن أوروبا فصلت الدين عن الدولة وظهر عصر الأنوار، ووصلت أوروبا في طريقها إلى الازدهار والتطور، ولكن هل هذا الفصل هو ابعاد الدين أم رجال الدين، وبخاصة أن تفسيرات النصوص الدينية كانت ولاتزال هي معضلة في الحراك الاجتماعي، حيث هناك من يفسر ويؤول ويطلق الأحكام والفتاوى بما يخدم المصلحة الخاصة أو المصلحة الفئوية.

لهذا نعتقد أن الإبعاد ليس للدين بقدر ما هو إبعاد إلى رجال الدين حتى لا يتحكموا في مصير المجتمعات والناس وهم غير واعين لدوهم الحقيقي الذي جله محصور في الممارسات الدينية.

ولكن هذا الفصل، أخذه العرب بما فيه من مظاهر الانفصال حينما ظهرت بوادر التنوير في العالم العربي ومحاولة مجاراة الغرب في تحولاته وتطوره كانت المواجهة الأولى في المجتمع العربي، هي: مواجهة الدين ورجال الدين، وبهذا فالعرب أخذوا ما كان ظاهرًا في المواجهة الأوروبية بين التنوير ورجال المسيحية.

إلا أن هذا التقليد ليس منطقياً، فهو تقليد سطحي أو كما يقول على شريعتي: " ينبغي على المثقف أن يحذر التقليد والنظر إلى الأمور بسطحية، وعليه أن يفهم أن الدور الذي يقوم به الدين السائد الآن بين الجماهير، لا علاقة له بالدين الإسلامي أو الثقافة الإسلامية الأصيلة الذي يرسو قواعد مجتمعه، وأن تجربة اللادينية التي استخدمت في مقاومة المسيحية في العصور الوسطى لا يمكن أن تطبق على الإسلام سواء في ماضيه أم في حاضره "([1])، حيث التباين المؤكد في طبيعة المجتمعات وحيثياتها الاجتماعية ومجمل التناقضات التي تحدث بين الحين والآخر في ظل طبيعة هذا المجتمع أو ذاك.

وما أحوجنا اليوم إلى إعادة النظر والمراجعة الصادقة مع ذواتنا وعلاقتها بذوات الآخرين، حيث بات العالم العربي اليوم معرضًا أكثر من ذي قبل للانتهاك والسبي والسرقة وتدمير الإنسان فكرًا ووجودًا ثقافيًا وحضاريًا، من خلال عدة جهات "داخلية وخارجية"، كانت ولاتزال ترى أن الحق معها، وأنها هي التي ستصلح كل المجتمعات، لما لها من فكر وتوجه، وأحادية المنطلق، إذ انبرت جماعات تملك بعض المفردات الجاذبة استطاعت أن تحولها إلى خطب رنانة تدغدغ المشاعر، وتتغلغل في الوجدان بعاطفة جياشة، وإن كان كل هذا في شكل فضاء مهلهل يثقب بأدنى ريح تمر عليه، وهو ما يعكس معاناة العالم العربي منذ فترات طويلة خلت.

وما يحدث اليوم، ليس سوى شكل من أشكال ما كان في السابق، أي النكبات والويلات التي تحدث، كلما خمد المجتمع وضعفت إرادته السياسية والمجتمعية، فبعد خمول العالم العربي متوسدًا وسادة التراجع والانغلاق منذ قرون، وتحديدًا بعد أن ضعفت الدولة العباسية وتفتت إلى دويلات في الأقطار والأمصار، ودخول التتار ودمار بغداد، ثم تكالب المصائب بالاحتلال العثماني لمعظم البلاد العربية، وخروجه ليدخل الاستعمار الأوروبي الذي وصل إلى شعوب بحاجة إلى استيقاظ وصحوة اجتماعية وثقافية وعلمية، ما لبثت أن تجلت تلك البدور التي أسهمت في الوعي العربي في تلك الفترة وفرضت، على الآخر مطالبها والدفاع عن كرامتها وجغرافيتها وثقافتها.

وهنا نتساءل، هل المطلوب منا ونحن في القرن الواحد والعشرين، ونعيش عصر الثورة المعلوماتية الكونية، أن نعيد نتاج من سبقونا ونبجله، وننادي به؟ أم بات واجباً علينا أن نضع هذا المنجز والتراث العربي على مشرحة التحليل والتفسير والبحث في ضوء مناهج النقد والنظريات الحديثة، ومحاورة كل الجوانب التي تلامس مرحلتنا الحالية، بل القيام بغربلة ما يشوبه، بل علينا أن نؤمن بالحداثة التي، هي: " مرحلة تبلغها المجتمعات من خلال عملية التراكم التاريخي والجهود التي يبذلها أبناء المجتمع في سبيل الخروج من القصور الذي يقترفه الإنسان في حق نفسه، وعجزه عن استخدام عقله وإمكاناته في سبيل البناء، لذلك لابد من الحرية والاستخدام العلني للعقل في أمور المجتمع وقضاياه المختلفة، والمتعلقة بمبادئ حقوق الإنسان والفلسفة العقلانية، وفكرة التقدم الاجتماعي "([2]).

وهنا لا نحصره في الماضي السحيق، فمنذ "بدء اليقظة العربية الحديثـة مع أوائل القرن التاسـع عشـر، والفكـر العربي بمختلـف اتجاهاتـه وتيـاراتـه يعيش مشكلـة النهضـة أو على الأصح يبحث عن مشروع النهضة "([3])، وإنمـا حتى ما نادى به مفكرو النهضة العربية الذين خدموا بفكرهـم وعطائهـم الشعب العربي والثقافة العربية والحضارة العربية، أمثال: بطرس البستاني، وشبلي شميل، وناصيف اليازجي، ومحمد عبده، والأفغاني، والكواكبي، وسلامة موسى، ثم طه حسين، وأحمد أمين، لطفي السيد، وساطع الحصري، وغيرهم من الكتاب والمفكرين، وهنا وجد العرب أنفسهم "أمام نموذجين حضاريين، الحضارة الأوروبية التي كان تحديها لهم ثقافيًا وعسكريًا المهمـاز الذي أيقظهم وطرح مشكل النهضة عليهم، الحضارة العربية الإسلامية التي شكلت ولاتزال تشكل السند الذي لابد منه في عملية تأكيد الذات لمواجهة ذات التحدي "([4]).

إن هذا الجيل الذي كان يمثل التنوير في بداية القرن العشرين، كان ينادي بالقيم العليا لكي تكون غذاءً لأفراد المجتمع، حيث أسهم الجيل في التأكيد على الحريات العامة، الفردية والمجتمعية التي تبني المجتمع، وليس تلك التي تؤدي به إلى الهلاك والضياع والجهل والمرض، بمعنى الحرية المسؤولة.

كما أكد هذا الجيل أيضًا على العدالة الاجتماعية التي تفرض وعيًا تجاه الوطن الكبير قبل الصغير، تلك العدالة المتمحورة في أبعادها الثقافية والمعرفية، وأيمانًا بدور الفرد في تحديث مجتمعه وتطوره، وهذا ما يدعو إلى التنوع الثقافي من جهة وقبول الآخر من جهة ثانية.

لم تنس النهضة العربية إذ وضعت في اعتبارها - وهي ترى الغرب ومسيرة التطور - الذي جعل المنادون بالتغيير والنهضة أن يقدموا مشروعهم النهضوي بصفته إصلاح الأمة والمجتمع في شتى مناحي الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، وهذا يدعو إلى التواصل مع الآخر، وبالأخص حينما كانت البعثات التعليمية ترسل إلى جامعات أوروبا.

وفي هذا السياق هناك باحثون "كانوا الأكثر انشغالاً بالتنوير، وتحت عناوين مختلفة، بعضها يشير إلى التنوير بهذا الاسم حيث أقيمت الندوات والمحاضرات التي تكشف عن طبيعة الثقافة العربية، ليس في مرحلة الاستنارة بالغرب، وإنما أيضًا في الكيفية التي درست بها تلك الاستنارة، ومراحلها التاريخية والشخصيات التي كانت مؤثرة فيها "([5])، وفي مقابل هذا التوجه الإصلاحي هناك من أخذ خط الدفاع عن المكتسبات العربية الإسلامية، ونادى بالمحافظة، ورفض الذهاب إلى ما هو في الغرب، مما يدعونا إلى قراءة واعية للواقع المعيش وإلى تلك الثقافة السائدة فيه، وإلى طبيعة الأفراد ومدى تعاطيهم في الثقافة نفسها.

وهذا يعني، إن أردنا الحداثة في المجتمع العربي أن نؤمن يقينًا بأن أي حداثة لا يمكن استيرادها من الخارج إلا وفق معطيات اجتماعية وثقافية وحضارية وبنية عقلانية، بحيث لا ينبغي النظر إلى الحداثة بوصفها مجموعة من السلع والمواد التي تباع وتشترى، ويمكن استيرادها من موطنها الأصلي أيًا كان موقعه الجغرافي، بل علينا النظر في أهمية توافر الشروط التي تؤسس خطط السير نحو الحداثة، أي الشروط الثقافية والاجتماعية والعوامل التي تؤهل المجتمع أفرادًا ومؤسسات مختلفة التخصص والمهن والمجال، ومراكز البحث العلمي والإنساني، وكل ما هو مرتبط بحالة من حالات المجتمع وتسهم في بلورة فكرة أو آلية أو طريقة نحو التقدم في التفكير والتخطيط والعمل.

ولكن لكي يكون مجتمعنا حداثيًا فهناك سمات ينبغي أن يتحلى بها المجتمع، مثل: إعطاء الصدارة للعقلانية في الإيضاحات والتفسيرية للمعايير الدقيقة للتفكير العلمي التي تؤكد على ضرورة التواؤم بين الوسائل والغايات، وأن تكون الكفاءة المكتسبة بالتعليم والتدريب والخبرة والتجربة معيارًا لتبوئ المناصب وليس المكانة الاجتماعية ([6]).

وهذا يعني دعوة إلى محاولة انتشال المجتمع من أنياب الضياع والخوف من انحرافه نحو التعصب في شتى أمور الحياة، إذا أردنا فعلاً مجتمعًا مدنيًا قائمًا على النمو والتعايش، والتطور المجتمعي في مجالي القيم الإنسانية والقيم العلمية، وعبر التفكير العلمي نقد المراجعات التي كانت تخطط مسيرة العمل الاجتماعي الفرد والجماعي.

كما أنه لا ينبغي النظر إلى المجتمعات الإنسانية على أنها مجتمعات مدنية وفق الرغبة في البقاء والاستمرارية تبعًا لما في مجتمعات أخرى من دون دراسة كل ما يتعلق بظروف البيئة والمحيط وحالة المجتمع الفكرية والثقافية والاجتماعية.

لذلك أتصور لابد من الابتعاد عن الصراعات الشخصية المرتبطة بالفرد أو الجماعة في حالة التطلع نحو مجتمع مدني قادر على مواجهة الصعاب، وراغب في التعايش بسلام بكل الهويات والطوائف والمعتقدات والأفكار، حيث كل هذه الصراعات القائمة على المصلحة الفردية أو الفئوية تسهم سلبًا في تفتيت أواصر المجتمع وروابطه، وتفكك الخيوط الاجتماعية التي تؤسس مجتمعًا متعايشًا.

ولذلك لابد من كشف الزيف والخلل، ومجموعة الاحباطات التي تعتري هذه الفئة أو تلك من أبناء المجتمع، ولكن في سياق السلام والتسامح، والحرية والمساواة، والتواصل الاجتماعي، والانسجام الوجداني، والتقدم العلمي، وعلى رأس كل هذا التمسك بمبدأ العقلانية في التعاطي مع كل شؤون المجتمع. وهو ما يؤكد ما نادى به تيار الانفتاح في الثقافة العربية الإسلامية قديمًا على الآخر كالفارابي ومتى بن يونس وابن رشد الذين تتمحور دعوتهم إلى "وصل الثقافية العربية الإسلامية بثقافة اليونان دون إعطاء كبير أهمية الاختلاف الثقافي أو حتى الاعتقاد بوجوده أصلاً " ([7]).

بمعنى آخر، علينا أن نفكر ملياً حين نطلق مصطلح الأمة العربية، أو ننادي بالقومية، فهل يتم ذلك وفقًا للغة أو الدين؟ أم وفق الأرض وما تجود به، والتمسك بما فيها من مقومات كثيرة تربط كل من هو على الأرض العربية - هنا استثناء الكيان الصهيوني - دون النظر إلى اللغة أو الدين أو القوميات أو الأعراق، أو الطوائف، والانطلاق من فكرة أن لا شعب أصيل على هذه الكرة الأرضية، فكل الشعوب تتداخل فيما بينها، حيث الأمر يتعلق "بمفهوم الثقافة القومية العربية لا نعني فرض نمط ثقافي معين على الأنماط الثقافية الأخرى المتعددة والمتعايشة عبر تاريخنا المديد. إن التعدد الثقافي في الوطن العربي واقعه أساسية لا يجوز القفز عليها، بل بالعكس لابد من توظيفها بوعي في إغناء وإخصاب الثقافة العربية القومية وتطويرها وتوسيع مجالها الحيوي "([8]). بل وصل العلم إلى أن يقوم بتحليل الجينات الخاص بالإنسان لتعطيه سلالته ونسبه وتلك الأزمنة والأمكنة التي له جذور فيها عبر مئات السنين.

[1] - علي شريعتي، مسئولية المثقف، ص140.

[2] - محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، ص33.

[3] - محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص21.

[4] - محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص22 – 23.

[5] - سعد البازعي، قلق المعرفة – إشكاليات فكرية وثقافية، ص143-142.

[6] - انظر: جامعة كل المعارف، ما الثقافة؟، ص615-616.

[7] - سعد البازعي، الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، ص21.

[8] - محمد عابد الجابري، إشكالية الفكر العربي المعاصر، ص40.