د. فهد حسين
تشير كلمة التنوع في الأساس إلى التعدد والتباين، وهذا يعني أن هناك أنماطًا مختلفة، قائمة وسائدة داخل المجتمعات الإنسانية، المتعددة في الأجناس والأعراق والهويات والديانـات واللغـات. ولكي تكون هذه المجتمعـات متخلقة بالإنسانية حقًا، فإن عليها أن تجعل من هذا التنوع حالة صحية لا مَرَضية، عبر التواصل والتبادل والإبداع والاستمرارية في الحياة وبناء المجتمعات، وإذا كـان التنـوع الثقافـي مصطلحًـا أو مفهومًـا، وقـد ارتبـط بالدراسـات الاجتماعيـة والثقافيـة، فهـذا يعني أنه مفهـوم قائـم على الاختـلاف والتبايـن والمفارقات الثقافية التي تحكمها بعض النظم الاجتماعية، والأنماط الثقافية في المجتمعات الإنسانية، الأمر – إذا كنا مؤمنين بأهمية هذا التنوع – وهو شيء مؤكد بالنسبة لنا، فإنه يدعونا إلى ضرورة إحداث التقدير لكل الثقافات وما تمثله من هويات أو أفكار أو أيديولوجيات أو تطلعات، وكذلك الأجناس والألوان والمعتقدات المختلفة الدينية والعقائدية وغيرها.
وعليه فإن التنوع الثقافي هو ما يحتضنه المجتمع من تراث إنساني مادي ومعنوي، ماضيًا وحاضرًا ورؤية مستقبلية، تؤمن بالتغيير والتحوّل والتطويـر، وتؤمن بقبـول الآخـر اجتماعيًا وثقافيًا ودينيًا وعرقيًا، وكـل ما فيـه من التباين، لما لهذا كله من مصلحة مجتمعية عامة، وهذا ما أكده المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم الثقافة (إيسيسكو) الأستاذ عبدالعزيز بن عثمان التويجري حين قال: " إن تعزيز التنوع الثقافي يوفر الأسباب لتقوية وشائج التعـاون الدولي وذلك من خـلال الحوار والتقـارب بين الثقافـات الذي ينتهي إلى التحالف بين الحضارات من أجل بناء مستقبل آمن ومزدهر للإنسانية".
وكما أكدت ذلك من قبل السيـدة إيرينا بوكوفا المديرة العامة لمنظمة الأمـم المتحـدة للتربيـة والعلـم والثقافـة، (اليونسكـو) حين أعلنت " أن سنة 2010 هي السنـة الدولية للتقـارب بين الثقافـات "([1])، وقبل هذا وذاك فإن الله سبحانه وتعالى أكد في كتابه المجيد على أهمية التقارب والتنوع والتلاقي، فقال: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)([2])، أي أن التواصل الثقافي والتعايش داخل فيه، حيث التلاقي مع الآخر يعطينا شرعية التواصل والاغتراف والتبادل لما لكل هذا من ميزات حضارية وثقافية وعلمية واجتماعية، مع القيام بإزالة كل العقبات التي ربما يثيرها مناهضو هذا التنوع.
وتؤكد كل التعاليم في الديانات السماوية والوضعية على أهمية التعارف والتواصل والتقارب والتعايش السلمي بين البشر، يعني حدوث مبدأ التسامح الديني والمذهبي؛ لأنها جاءت رحمة وسعادة وحياة مثلى للإنسان. وليس نزول الديانات السماوية أو حتى الوضعية من أجل عذاب الإنسان، أو إهانته أو للتقليل من شأنه وكرامته، بل حقيقة الأمر والقصد هنا، هو التنوع الثقافي الذي يعتبر حقًا شرعيًا من حقوق الشعوب القاطنة والمنتشرة على كل بقاع الأرض مع اختلافها، وهو ما أكدت عليه ليس الديانات السماوية والوضعية فحسب، وإنما المنظمات والوكالات الدولية المعنية بحقوق الإنسان الداعية إلى حدوث الطمأنينة ونيل الحقوق، وتنفيذ الواجبات، وكلما عاش المجتمع في سلام كلما نذرت المشكلات.
ولا يمكن لنا ربط حالتنا الثقافية بقيد من الهوية العرقية أو القومية الناقصة أو من خلال دين ما في وقت تنتشر في المكان نفسه أديان أخرى. لهذا هناك الكثير من الناس الذين وضعوا أقدارهم المجتمعية والحياتية بعد الله سبحانه وتعالى، في يد بعض رجال الدين، " فبقدر ما تسود التنشئة الدينية التي تدعو إلى الطاعة والامتثال، يفقد المؤمن القدرة على اتخاذ المبادرة والقيادة والعمل على استشراف المستقبل، وقد يرى المؤمن نفسه فاضلاً بقدر ما يرضخ ويقبل بالأمر الواقع، ويستسلم لمشيئة غير مشيئته، وبتعطيل طاقة الإبداع، كثيرًا ما ترتاح الغالبية العظمى من الناس إلى اللغة الجاهزة، وإلى التكرار والتبسيط والطقوسية "([3]).
وإذا كان الحوار هو أحد المداخل لهذا التقارب، فهناك أدوار لمجالات أخرى في مسألة التقارب الإنساني من جهة، والتنوع الثقافي من جهة أخرى، كالأعمال الاجتماعية، مثل: بعض مؤسسات المجتمع ذات النفع العام، كالجمعيات الخيرية أو النسائية أو الصحية، والأعمال الفنية (المسرحية والسينمائية والدرامية، والفنون التشكيلية المتنوعة والنحت والتصوير وغيرها من الإبداعات الإنسانية)، وكما لهذه الفنون جسور من التواصل والتقارب، فإن للكتابات الإبداعية الأدبية الشعرية والسردية جسورًا أيضًا.
ولكن هل تساءلنا في عالمنا العربي بكل مؤسسات المدنية عامة، والتي تطالب بحقوق الإنسان المشروعة ولا يختلف عليها اثنان بشأنها، لماذا العالم " يملك لائحة حقوق الإنسان العالمية، ولا يملك لائحة تكاليف (واجبات) الإنسان العالمية، إذ لو تقرر أن يقوم المجتمع على الحقوق فقط، فإن ذلك سيعرضه للانهيار، فمن الضروري وجود توازن وتعادل بين كفتي الميزان للحقوق والتكاليف "([4]).
إن كل ثقافة ينبغي أن تكون منسجمة مع ذاتها الفردية والجماعية، ومن خلال هذا الانسجام تبدأ في إبراز السلوك الاجتماعي والثقافي لدى الأفراد في عالمنا العربي، لكن ما يطرأ اليوم من حالات قد يراها البعض أنها حالات ثقافية منسجمة إلا أن قراءة واعية وفاحصة للمشهد العربي السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي نجد أن الانسجام غير واضح المعالم، أو لنقل غير موجود، وذلك بسبب تغلغل ثقافة المكان الواحد دون الأمكنة الأخرى، وثقافة العرق الواحد دون الأعراق الأخرى، وثقافة الدين الواحد دون الأديان الأخرى، وثقافة الطائفة الواحدة دون الطوائف الأخرى، وثقافة اللغة الواحدة دون اللغات الأخرى، وهكذا فإن تسيس الدين يشكل خطرًا على المجتمعات قاطبة، ويخلخل علاقاتهم الاجتماعية والثقافية وبخاصة حينما يكون نظام دولة ما منبثق من مبادئ دين يفرض على جميع أفراد هذا المجتمع على الرغم من التعدد الديني والمذهبي والاثني والقومي، مما يسبب هذا الانشطار الذي يدعي أنه في بوتقة الحاضنة الثقافية المؤمنة بالتنوع، مؤديًا إلى تفتيت بعض المجتمعات وانهيار بعضها الآخر.
ومن المعضلات التي ينبغي على المثقف الوقوف عندها وقراءتها قراءة تحليلية وتفسيرية ممارسته النقدية للواقع المعيش، إن كان نقدها موجهًا للواقع الاجتماعي والسياسي وغيرها من الحالة المعيشية، أم هذا النقد موجه إلى تلك الأفكار التي باتت معشعشة في العقل والتفكير عنده وعند أفراد المجتمع، إذ بهذا فهو لا يسعى إلى تطوير المجتمع وتنويره بقدر ما يسعى إلى فرض أفكار غير موضوعة للنقد والتجربة، وهذا ما يستدعي المراجعة في آلية التفكير، وطرائق التغيير، وأساليب العمل التنويري ثقافيًا واجتماعيًا، وهذا يتطلب منا جميعًا وقفة صريحة لمحاورة العقل العربي المنتج للأفكار والرؤى، لما تفرض عليه وقائع الحياة ومتطلباتها، أن يواجه جل القضايا العربية المصيريـة لتفكيك مفاهيمهـا وتحليلهـا؛ لأن العقل العربي كما يشير حسن صعب القضية الحضارية الأولى التي تتوقف عليها مواجهتنـا لجميع قضايانـا المصيرية، فهو الذي يوفـر لنا الإدراك الحقيقي للمعطيات العقلية لعملية تقرير المصير، وهنا لا يعني إثارة تحديث العقل العربي إثارة نظرية، بل إثارة تطبيقية وظيفية، قوامها وعي الصلة الحركية العضوية بين الفكر والحياة "([5]).
وعلى الرغم من تواصل العالم ثقافيًا وحضاريًا منذ قرون خلت، فإن السياسة لم تساعد على هذا التواصل، وإنما حاربته بعدة طرائق ووسائل، فمرة باسم اللغة والمحافظة عليها، ومرة باسم عادات المجتمع المحافظ، ومرة باسم الاطماع، لكن أكثرها قوة، تلك التي أدخلت السياسة فيها العديد من الدول في حروب باسم الدين، وحاصرته باسم التعصب المتعدد، وكتب التاريخ والتراث، والأدب شاهد على ذلك، كما ظهر في إسبانيا على مدار تاريخها وحضارتها، حيث الحروب التي دارت وأسهمت في دخول الإسلام، ثم التقهقر، ومحاربة الإسلام والمسلمين، فضلاً عن اليهود، والبقاء على الدين المسيحي، وهذا ما كشفته الكثير من الأعمال الإبداعية والتاريخية التي تناولت المذابح والتشريد والتهجير، بعد زرع الخوف، وعدم الاطمئنان، والتفكير في اللجوء لمكان آخر أكثر استقرارًا وحماية، كما تمظهر في سلوك القشتاليين، وممارسة العنف ضد من يخالفهم في الدين والعقيدة، وهو عنف ثقافي سياسي مغلف بإطار اجتماعي ومرجعية دينية، برز من خلال التشريعات والقوانين السياسية في ذلك الوقت، والسعي إلى تهميش المختلفين عنهم دينًا وعقيدة وثقافة.
وفي الوقت الذي أقرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن يكون عام (1995) عامًا للتسامح، وعام (2000) عامًا لثقافة السلام، وعام (2001) عامًا للحوار بين الحضارات، فقد حدث فيه ما لم يكن في الحسبان لدى العالم كله، وهو ضرب البرجين بأمريكا في هذا العام، مما جعل العالم يعيش في حالة ذهول ودهشة واستغراب، وصدمة حضارية وفكرية ووجدانية، وفرض هذا الهجوم ثقافة الإقصاء والسؤال المحكوم بقرار حاسم تجاه دول دون غيرها، وعاش العالمان العربي والإسلامي حالة بؤس وشقاء، لما برز إثرها من رؤية غربية تجاه الإنسان المسلم عامة، والعربي بوجه خاص، وأوكل بعض الكتاب والصحفيين أنفسهم لطرح هذا التباين في الوعي والثقافة وتربية الأجيال، وانبرى كذلك بعض المبدعين العرب للدفاع عن الإنسان العربي، وبيان الموقف بين التسامح والتشدد عربيًا وغربيًا.
لكن ثقافة الجماهير آنذاك كانت هي الأقوى، وهي التي تملك القدرة على إحداث الحراك ضد أو مع، فاستطاعت عبر فتيل بعض الأقلام ممارسة التشدد والتطرف، كما ظهر ذلك في بعض الأعمال الإبداعية الروائية في منطقة الخليج العربية، مثل: رواية سعاد للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، ورواية سيقان ملتوية للكاتبة السعودية زينب حفني، وهذا لا يعني الفصل والابتعاد الكلي بين الحضارات والثقافات، فقد كانت حضارة بلاد الفرس، وبلاد الروم، وبلاد الهند حاضرة من خلال الترجمة في الثقافة العربية منذ الخلافة العباسية، واستمر هذا التواصل إلى يومنا هذا، بل إن الشرق العربي والآسيوي كان حاضرًا بثقافته المتعددة والمتنوعة في عوالم الحضارة الغربية منذ القدم. ولقد دشن " التاريخ الرسمي لبدء الاستشراق في صدور قرار مجمع فيننا الكنسي عام 1312 ميلادية والقاضي بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في العربية واليونانية والعبرية والسريانية في جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلامنكا "([6]).
ومهما حاول البعض في المجتمع المهتمون بالثقافة أن يدعون لأهمية الثقافة بوصفها زادًا معرفيًا، تبقى لدى البعض أيضًا سواء كانوا أفرادًا أم جماعات أم فئات أم شرائح حساسية الدخول في ذلك المفصل المجتمعي، والعلاقة بين الجديد وما يحمله من تطلعات، وبين القديم وما له من تراث بات بعضه غير صالح لحياة حاضرة فكيف سيكون لاستشراف المستقبل! ولكن هذا لا يعني أن الذهاب إلى الجديد هو طمس للقديم، وإنما ينبغي أن تكون العلاقة بينهما تشكل مساهمات معرفية لتطوير المجتمع، وعلينا هنا أن نتساءل حـول ما يريـده هـذا الإنسان البسيط الذي غطتـه علامات الحـزن، ليتشرب الألـم بكل لحظـة، ويغتسل العـذاب بين الحيـن والآخـر، ويحلـم بعالـم مجهـول في هويتـه وطبيعتـه ومناخـه، وبخاصـة أن " الثقافة تشكل عاملاً حاسمًا وموحدًا في آن واحد، فالشعوب التي تفصلها الأيديولوجيا توحدها الثقافة فتلتقي معًا على طريق واحد، كما حصل مع الدولتين الألمانيتين في الغرب، والكوريتين في الشرق، أو أن تلتقي المجتمعات التي وحدتها الإيديولوجيا أو الظروف التاريخية ولكنها قسمتها الحضارة، كما حدث في الاتحاد السوفييتي والبوسنة، أو تظل رهينة التوتر العنيف كما هو الحال في نيجريا وسيرلانكا .... "([7]).
كل شعب أو منطقة أو مرحلة من التاريخ لها مناخها وظروفها واختياراتها التي تسهـم في بلورة أفكارها وثقافتها المنبثقة من الدين والعادات والأعراف وما شابه ذلك. من هنا يحدث التمايز والتباين والتنوع في المشهد الثقافي، " الثقافة تمكّن الإنسان لا من التأقلم مع محيطه فحسـب، وإنما من تأقلم المحيط معه أيضًا، ومع حاجاتـه ومشاريعه، أي أن الثقافة بتعبير آخر تجعـل الطبيعة ممكنًا "([8])، وما يدلل على ذلك أن المنطقة العربية عامة راضية بهذا التأقلم، وأرضها خصبة لهذا التلاقي والتنوع، وكذلك سكانها راغبون في هذا التواصل، وما تلك الهجرات التي انطلقت من المنطقة العربية إلى بقاع العالم شرقًا أو غربًا أو جنوبًا، أو تلك الهجرات التي حدثت في منطقة الخليج العربية متجهة إلى بعض الدول العربية أو الأجنبية إلا دليل واضح على ما تؤمن به الشعوب قاطبة من هذا التمازج.
وإذا كان هناك بعض العائلات التي فضلت العودة إلى المنطقة العربية، فهناك من بقي حتى هذه اللحظة. بل هناك من له من الاستثمارات والأعمال الاقتصادية والتجارية، وفي الوقت ذاته هناك عائلات عربية وأجنبية فضلت أن تستوطن المنطقة الخليجية أيضًا، وبقيت حتى هذه اللحظة. وفي كلتا الحالين فإن الترحال والهجرات تحمل معها الموروث الثقافي والاجتماعي، واللغات والأديان، مما ينتج عنه نوع من التمازج الذي يفتح آفاقًا مع الآخر، وعالمًا إنسانيًا يتقبل بعضه بعضًا في شتى مجالات التنوع الثقافي والاجتماعي والديني والعرقي واللوني، وغيرها من الأمور التي برزت في الآونة الأخيرة على أنها حالات مقيتة، وغير مفيدة للمجتمعات، بحكم قصر النظر، وأحادية الرأي.
[1] - مركز أنباء الأمم المتحدة.
[2] - الحجرات، آية:13.
[3] - حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية، ص126.
[4] - عبدالكريم سروش، التراث والعلمانية، ص74 و 81.
[5] - محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص43.
[6]- سهيل عروسي، حوار الحضارات بين الواقع والطموح، ص95.
[7]- صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ص75-79.
[8]- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص10.