كيف تنشر شائعات حول شخص على الإنترنت، وتستهدف حياة الآخرين بأسلوب رخيص لا يمكن إصلاحه أبداً وتخترق مواقع شخصية وتقرصن معلومات خاصة؟ كيف تشوِّه سمعته وتنسفه نسفا، فتلحق به كثيرا من الأذى النفسي والاجتماعي؟ بل كيف تفجّر شخصية إنسان في عيون الآخرين مثلما تفجر الألغام جسد العابرين؟ كيف تستبيح حياة الآمنين وترسل لهم فيديوهات تستدرجهم للفواحش وتبعث صورا فاضحة تتحرش بهم؟ كيف تتجرأ وتطلب القصّر للتعري ولممارسة الجنس؟ كيف تقتل إنساناً دون جريمة؟
ذلك هو "التنمر الإلكتروني" طاعون الإنترنت الفتاك، وجريمة العصر القاتلة بامتياز، التي تفشت في المجتمعات وخاصة بين فئة المراهقين والشباب، وأضحت مسألة مقلقة ومثيرة، بل غدت ظاهرة خطيرة تكتسح مختلف وسائل التواصل الاجتماعي دون استثناء، تجاوزت تهديد الأفراد إلى استهداف أمن المجتمعات والدول، حيث أثبتت دراسة لهيئة تنظيم الاتصالات بمملكة البحرين أن 38 % من شباب البحرين مشاركون وضحايا.طاعون فتاكيعرف "التنمر الإلكتروني" بكونه شكلا من أشكال العنف والإساءة للآخر كفرد أو مجموعة عبر استغلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة لنشر صور وإرسال نصوص بغرض إلحاق الأذى بالآخرين بأسلوب متعمد ومتكررة وعدائي من المتنمر، بالسخرية والتخويف والترهيب.وعدت الدراسات والبحوث "التنمر الإلكتروني" ثاني أكثر المشاكل إثارة للقلق، لاسيما بعد أن أثبت آثاره النفسية والسلوكية والاجتماعية المدمرة للشخصية الفردية والمفككة للعلاقات الاجتماعية.وتعتبر أكثر الحالات تطرفاً للتنمّر الإلكتروني، أن يتعرَّض الأمن الشخصي للمتلقين وخصوصيتهم للخطر من خلال المشاركة غير المصرح بها لمعلوماتهم الشخصية وسرقة هويتهم، ونشر تفاصيل حياتهم الأسرية الحميمة التي تخصهم. إضافة إلى الاتهامات الباطلة والمغرضة، وإتلاف للمعلومات أو للأجهزة. إلى جانب طلب القُصّر لممارسة الجنس أو جمع المعلومات بهدف التحرش. وكان أكثر الآثار مبالغة فيه حسب دراسات هو إيذاء النفس، وارتكاب جريمة الانتحار بعد أن تورط في حوادث "التنمر الإلكتروني"، حيث ذكر تقرير صادر عن الأمم المتحدة أن ما يصل إلى 7 من كل 10 شبان قد تعرضوا للإساءة عبر الإنترنت في مرحلة ما، وأن واحدا من كل ثلاث ضحايا للتنمر قد تعرض لأذى ذاتي جراء ذلك، وأقدم 1 من كل 10 على محاولة الانتحار!.
وعلى مدى فترة استغرقت أربع سنوات، وبعد تحليل 19 مليون تغريدة، وجد تقرير "Ditch the Label and Brandwatch" أن هناك نحو 5 ملايين حالة من حالات كراهية النساء على تويتر وحده. وقد وجد أن 52% من إساءات كره النساء المسجلة قد كتبت بواسطة نساء، وغالباً ما استهدفت المظهر والذكاء والتفضيلات الجنسية للنساء الأخريات. ووجد التقرير أن هناك 7,7 ملايين حالة من حالات العنصرية، و390,296 حالة من رهاب المثلية، و19,348 رسالة تتعلق برهاب المتحولين جنسياً قد تم إرسالها على تويتر. في الوقت ذاته أن الدراسات العالمية تبين أن هناك 750 ألف متحرش جنسياً بالأطفال عبر الإنترنت في الدقيقة الواحدة.
وأما في البحرين، وحسب دراسة بشأن تحديد المخاطر على الإنترنت، قامت هيئة تنظيم الاتصالات "المراجعة الوطنية لوضع السلامة على الإنترنت في مملكة البحرين"، تبين أن التنمر الإلكتروني هو أكبر المخاطر التي تهدد الشباب البحريني حاليا، حيث أوضحت الدراسة أن 37.9% من المشاركين قد تعرضوا للتنمر الإلكتروني، إلا أن ما ينذر بالخطر هو أن 30% أقروا بأنهم شاركوا بأنفسهم في التنمر الإلكتروني.ومن خلال تحليل تلك البيانات، تبين أن 23.1% من الشباب شاركوا في التنمر الإلكتروني وتعرضوا له في الوقت نفسه. ووفقًا للدراسة، فإن أكثر الوسائط الثلاثة التي يتم فيها التعرض للتنمر الإلكتروني في البحرين بشكل كبير هي تطبيقات الرسائل الفورية والرسائل النصية القصيرة ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي.ضحايا بالجملةوكثيرة هي القصص التي نسمعها ونطالعها على الفايسك بوك وتويتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، عن حالات توريط ونشر صور فاضحة، أصبحت هذه الطريقة الابتزازية تجارة رائجة لا خسارة فيها لبعضهم، فيما غدت ملهاة يتسلى بها آخرون ويروّجون لها من موقع تواصل إلى آخر، والحال أنها مأساة كبيرة وجريمة قاتلة، مرتبطة بالعالم الإلكتروني، تستهدف حياة الأفراد وأمن المجتمعات، عملية "أخطبوطية" نوعية مدروسة، تستدرج فيها كل الفئات وخاصة الصغار عن طريق الصفحات الوهمية والمقرصنة، وذلك لقلة وعي المستهدفين أو غفلتهم وحسن نواياهم، إضافة إلى سهولة الوصول إلى الخصوصيات عن طريق بعض البرامج المشبوهة التي يستطيع أي شخص الحصول على الصور أو المعلومات الخاصة من خلالها، رغم حرص الأجهزة المختصة على توفير الحماية اللازمة، من الاستهدافات والقرصنة، إذ أكد القائم بأعمال نائب الرئيس التنفيذي للعمليات والحوكمة بهيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية الشيخ سلمان بن محمد آل خليفة أن الأنظمة الأمنية الخاصة بالهيئة نجحت في 2017 وحتى منتصف العام 2018 في منع محاولات عديدة لاستهداف العديد من الأنظمة الحكومية وحجب حوالي 183 مليون بريد إلكتروني ضار، فيما تم تدريب 2162 موظفاً من 24 مؤسسة وهيئة حكومية خلال العام 2017.
وفي كتاب "أبطال الإنترنت"، الذي يتناول قضايا وقصصاً حقيقة، إحدى القصص المؤثرة هي قصة "أماندا"، الطفلة الكندية التي أقدمت على الانتحار بعد أن عانت من الابتزاز والتحرش عبر الإنترنت. وهذه قصتها:
قصة "أماندا"
أماندا" التي انتحرت يوم 10 أكتوبر 2012 نقلت حكايتها عبر مقطع فيديو على موقع "يوتيوب"، حاملة بيديها أوراقاً بيضاء كتبت عليها عبارات قصيرة تقلبها ورقة ورقة بصمت لنقرأ رسالتها كاملة. لم تكن "أماندا" تعلم بنهايتها المأساوية يوم قررت وصديقاتها منذ سنوات حين كانت في الصف السابع التواصل من خلال الشات صوتا وصورة، إذ التقت شخصاً مجهولاً تودد إليها بكلام معسول، ثم طلب منها أن تكشف له عن جسدها، حتى استجابت له. وبعد مرور عام تسلمت "أماندا" رسالة تهديد عبر "فيس بوك" فيها مطالبة بالتعري وجهاً لوجه، وابتزاز فاضح بحيث إن لم تفعل يقع إرسال صورها لأصدقائها وعائلتها. وحين رفضت "أماندا" طلبه، فوجئت هي وأهلها بطرق على باب بيتها في الساعة الرابعة من فجر أحد أيام إجازة عيد الميلاد من قبل رجال الشرطة يطلبون "أماندا" للتحقيق معها بعد أن أصبحت صورها مشاعة للجميع، إضافة لوجود صفحة خاصة لصورها، وهي عارية على الـ"فيس بوك". ومنذ ذلك اليوم وقعت "أماندا" في دوامة من العذاب، حيث أدمنت الكحول والمخدرات، وحاول أهلها تغيير مكان سكنها ومدرستها عدة مرات، لكن دون جدوى. واستمرت الفضيحة في ملاحقتها، ودخلت حالة اكتئاب نفسية انتهت بها إلى الانتحار شنقاً، ما أثار ضجة حول العالم أجمع عبر البرامج التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي.قصة البسام عليذكر الفنان البحريني البسام علي في أولى حلقات انطلاق برنامج مجلس الشباب على إذاعة البحرين، التي كان موضوعها عن "التنمر الإلكتروني" بحضور عدد من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي وعدد من الأساتذة والمتخصصين في مجال التشريعات، أن التنمر الإلكتروني الذي تعرض عليه من تعليقات سلبية لأشخاص يستهدفونه في كل صورة يعرضها على موقع التواصل الاجتماعي الإنستقرام دفع البعض من أصحاب المحلات إلى تجنب استضافته كوجه إعلاني مما يعني أن التنمر يصل في جرمه إلى مسألة قطع الأرزاق والتسبب بالضرر المادي والمهني والتأثير على مستقبله فشن التعليقات السلبية ترسخ صورة سيئة عنه عند الآخرين أنه منبوذ ومكروه من الناس وغير مرغوب فيه!الوقاية خير من العلاج
وإذا كان المتنمر شخصا غير سوي يحتاج بدوره إلى إعادة تأهيل نفسي وعقوبة خدمة الناس والمجتمع، فإن مكافحة ظاهرة التنمر الإلكتروني تستلزم آليات مختلفة سواء بإنفاذ القانون الرادع وفرض العقوبات اللازمة، أو بالوقاية والتثقيف وزيادة الوعي بمخاطر طاعون الأنترنت، خاصة لدى الفئات القاصرة، وتقوية الدافعية والجرأة لديهم، لتكون شخصيتهم قوية قادرة على الرفض والممانعة، وبالتالي مساعدته على مواجهة المتنمرين. وهي مسؤولية مجتمعية مشتركة بين كل الأطراف ذات العلاقة، في الأسرة والمدرسة والفضاءات العامة. وفي إطار حملاتها لمكافحة ظاهرة التنمر الإلكتروني" وحماية الضحايا من جميع الفئات العمرية، أصدرت هيئة تنظيم الاتصالات بمملكة البحرين وبالتعاون مع برنامج (كن حرًا) التابع لجمعية البحرين النسائية للتنمية، "قل لا للتنمر الإلكتروني".وفي عام 2012، قامت مجموعة من المراهقين في مدينة نيو هيفن بولاية كونيتيكت في أستراليا بتطوير تطبيق للمساعدة في مكافحة التنمر ، وسمي بـ "تراجع أيها المتنمر" (Back Off Bully)، وهذا التطبيق الإلكتروني هو عبارة عن مصدر مجهول للكمبيوتر، أو الهواتف الذكية أو الأيباد. فإذا كان هناك شهود أو ضحية للتنمر، فبإمكانهم الإبلاغ فورًا عن الحادث عن طريق هذا التطبيق. ويقوم التطبيق بطرح أسئلة عن الوقت، والموقع، وكيفية حدوث التنمر، فضلاً عن توفير إجراءات إيجابية والتفويض خلال الحادث. كما تحول المعلومات الواردة إلى قاعدة البيانات حيث يقوم المسؤولون بدراستها. ورصدت المواضيع المشتركة لتمكين الآخرين من التدخل وكسر نمط المتنمر.ونظرا لخطورة ظاهرة "التنمر الإلكتروني" وآثارها النفسية والاجتماعية وما تخلفه من تفكك أسري وانعدام الاستقرار المجتمعي، يجب على جميع الأطراف مضاعفة الجهود المبذولة لحماية المجتمع عبر تقنين هذه الوسائل، بدءاً من الأسرة ومروراً بالمجتمع وانتهاء بالأجهزة الأمنية المختصة بحماية حياة الأفراد والجماعات من كل أشكال «التنمر الإلكتروني» ومعاقبة كل جهة تقوم باستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لأغراض غير شرعية أو غير قانونية، كل ذلك من أجل سلامة واقعنا الحقيقي من تغوّل واقعنا الافتراضي.