زينب محمد - طالبة إعلام جامعة البحرين
خاضت معركة مريرة وقاسية مع مرض السرطان العضال، ولكنها قهرته وانتصرت عليه، وخرجت من المعركة أكثر صلابةً وقوةً ونضجاً، وأصبحت شخصاً آخر، يدُرك قيمة الحياة ومعاناة البشر وأصبح هدفها في الحياة إسعاد ذاتها ومن حولها.
تقول خديجة حسن أحمد والبالغة من العمر 34 عاماً، والتي كانت الأكثر تفاؤلاً وانطلاقاً في الحديث عن تجربتها مع سرطان الغدة الدرقية: عندما تلقيتُ خبر إصابتي من الطبيب بشكلٍ مباشر جداً قائلاً:" عندش خبيث في الغدة الدرقية "، لم أبكِ، لم أصرخ، لم أنهار ولم أجزع إنما اكتفيتُ بقول (الحمدلله)، وهذا ما يُثير صدمتي واستغرابي الآن ويجعلني في تساؤلٍ دائم " ليش ما صحت على نفسي؟ "، لأنني دائماً ما كنت أتأثر بشكلٍ كبير عند أي موقف، حتى عندما كنت أتابع حلقاتي المفضلة على (التلفزيون)، والتي يُعرض فيها موقف حادث أو وفاة كان ذلك ينال من بكائي بشكلٍ كبير جداً.
وتكمل أطراف الحديث قائلةً: عندها قرّر الطبيب استئصال الجزء اليمين من الغدة الدرقية وهو الجزء الذي انتشر فيه السرطان، اقترحتُ عليه استئصال الغدة الدرقية بالكامل لكنّه قابلني بالرفض التام، لم تقف المأساة إلى هنا فحسب، لأنه بعد أسبوعين من استئصال الجزء الأيمن جاء موعد مراجعتي عند الطبيب والذي قال لي: " الورم في النص، فلازم نشيل الجزء اليسار بعد ".
كان فارق الزمن بين العمليتين 28 يوماً، لكنّه لم يُخفني إجراؤها بل واجهتُ ذلك بكل ثقة، واتخذتُ قراراً حاسماً وفوري، فأنا أمٌ لثلاثةِ أطفال وكل من حولي يحتاج اهتمامي ورعايتي، رغم ما انتابني من الخوف وهواجس الأفكار التي أخذت مني بضعة أيام، لكنني واصلت بعزيمةٍ قاهرة، تحاملت على خوفي، وشحنتُ نفسي بالأمل والرضا بقضاء الله.
بعد تقرير العلاج الإشعاعي كعلاجاً مناسباً لحالتي، كانت معاناتي صعبةً جداً، حيث يُمنع عني تناول اللحوم والأسماك، الحليب ومشتقاته، كل ما لونه أحمر، العصائر الجاهزة والمعلبات، أما المتوفر والمتاح هو الفواكه والسلطات وبدون الملح أيضاً !
كان ذلك جانبٌ مما عانيته، أما الجانب الآخر كانت هي العزلة القاتلة لأن الاشعاع كان يُسبب خطراً على الطرف الآخر بسبب انتقال اشعاعات عالية الطاقة، فكنت لا أرى أطفالي إلا عن بُعد، لا أنام مع أحد ولا أعيش مع أحد.
لكن وبعد كل المعاناة تلك، تقربتُ إلى الله سبحانه أكثر، أصبحتُ إيجابيةً أكثر، أصبحتُ هادئةً نوعاً ما، أصبحتُ أحبّ خديجة، أحبها أن تكون دائمة الابتسامة، أصبحتُ دائمة الاعتناء بنفسي ولم أسمح لنفسي أن أشعر بالألم، الإزعاج أو التعصب، بل أواجه المشكلة من زاوية الحل وليس الغوص في عمقها، فلكلّ مشكلةٍ حل.
أضافت " قد يكون الملل ربما، الفراغ أو كسر الروتين هو الذي جعلني أقضي معظم وقتي في المطبخ، لأبحث لنفسي عن مخرج من هذه النافذة الضيقة لذا لم أتردد في البحث عمّا يساعدني لتخطّي هذه الملل، فاخترتُ المطبخ صديقاً دائماً لي كما وجدتُ نفسي الإبداع في نفسي عندما أمتاز بنفسٍ جميل أُشاد به من كل من تناول أصناف الطعام من يدي، ومن خلال حب الناس لما أقدمه لهنّ أثناء زيارتي لي فأصبحتُ أستقبل هذه المهارة لقتل الفراغ الذي أعيشه وبدأت بالتخطيط الجاد لفتح مشروع خاص بي.
ولكن بعد إصابتي بالمرض، كان أكبر تحدياتي هو أن أواصل حياتي كما هي، روحي المُحبّة والشغوفة، علاقاتي مع الآخرين، وحتى عملي الخاص في المنزل لازلت مُستمرةً فيه ومواصلةً عليه وهو عمل " المحاشي " ولكنّ ما يُعيقني هو منزلي الصغير ومطبخي الأكثر ضيقاً حيث لا يسع دخول كبير عدد من الأفراد فيه، أو حتى الكثير من المحتويات، وحلمي أن أوسّع هذا المطبخ بحيث أصبح أكثر قدرةً للتنقل فيه والعمل بكل أريحية.
وأخيراً وجهت كلمتها لمن يلعن ظلام الحياة، لمن ييأس من الحياة لمجرد عثرةً أو فشل قائلةً: مثلما هناك ظلام فإن هناك نور والظلام لا يدوم، طبيعيّ جداً أن نمر بفترات عصيبة في حياتنا، وطبيعيّ جداً أن نتعثر، المهم هو النهوض بعد كل عثرة، فعلينا أن نكون متفائلين ومحبين للحياة.
..
على ذات صعيد قصة المعاناة والكفاح للانتصار على المرض، كانت المتعافية دعاء البقالي، البالغة من العمر 25 ربيعاً، نموذجاً حقيقياً للمرأة المفعمة بالحياة، وكأنّ روح طفلةً مشاكسة تسكن في عينيها وتنتقل بها من حلمٍ لآخر، لهذا يُصعب على المرء أن يتخيل امرأةً بروح طفلة مرّت من بوابة السرطان القاتل واستطاعت الخروج منها بهذه الإبتسامة الرائعة وهذه الروح الصافية المملوءة بالحب، وعلى الرغم من كل ما صادفته قررت أن تنتشل نفسها من أزمةٍ حقيقية وتتمسك بحبها لعائلتها وتتمكّن من العبور.
قالت: بدأت حكايتي مع السرطان بحكةٍ خفيفة من منطقة الرقبة نزولاً إلى أسفل الصدر، فأوّلتُ سبب ذلك نتيجةً لاستخدام العطور الغير مناسبة، حاولتُ تبديلها من فترةٍ إلى أخرى، لكن كل ذلك كان دون فائدة فقد كانت الحكة في ازدياد وانتشار، بعد ذلك كُثرت أعراض التعب والإرهاق لديّ لأقل جهدٍ أبذله، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تهيجت فيه الحكة بشدّة في رقبتي فتحسّست وجود جسمٌ غريب، تابعتُ البحث عن تلك الأعراض في " قوقل " فكان من ضمن أسباب تلك الأعراض هو الإصابة بسرطان الغدد الليمفاوية.
بعد زيارتي للمستشفى وإجراء الفحوصات الشاملة، كانت النتيجة بين يديّ الطبيب الذي لاحظتُ عليه الإرتباك والقلق، لكنه تجنب إخباري مباشرةً لعدم تأكده، وأعطاني الكثير من الاحتمالات الأخرى، وقال بأنه يجب أخذ عينة.
بعد انتظار أسبوع لنتيجة العينة والتي أكدت شكوك الطبيب الخائفة في أنّي أحملُ سرطاناً، لم يُخبرني أحداً بذلك وقتها رغم احساس الشك الذي كان لا يفارقني، كان الوالد كثيرُ ما يردّد على مسامعي " انتين مؤمنة بقضاء الله وقدره " ورغم تهيئتي لسماع ذلك النبأ عندما قرأت عنه، لكنّه وبعد تأكيده شعرتُ بالصدمة، الضيق، والخوف، لكنني لم أخاف من المرض نفسه أو تبعاته، ولا حتى من الموت، بل خفتُ من تساقط شعري وكيف يمكنني أن أفقده؟ كيف سأقابل الناس؟ وكيف ستستمر حياتي؟
تفاوتت ردّات الفعل، والدي، والدتي، زوجي والأقرباء، فزوجي رغم تأثره الواضح كان صبوراً، قوياً ولا أنسى وقوفه إلى جانبي أبداً، أما أمي رغم توقعي لإنهيارها إلا أنني تفاجأت بقوةً قد زرعها الله بداخلها لتتمسك بأمل عودتي إلى الحياة بعد صعقها بالخبر، على عكس والدي الذي توقعت منه الثبات فكان منهاراً ودائم البكاء.
فاليوم أجدُ أن حلقة الدعم القوية بالنسبة لي هو وجود الأهل والصديقات بجانبي، والذين بفضلهم لم أجدُ وقت الفراغ لكي تجتاحني الأفكار السلبية، فلولاهم حقاً ربما لم أكن اليوم موجودةٌ هنا.
نصحني طبيب الجراحة الذي أخذ عينة، بأن أختار طبيباً جيداً لمتابعة علاج السرطان بحيث أكون مرتاحةً نفسياً للعلاج معه وغير قلقة، وعند بدء رحلة العلاج كان المرض في الدرجة الثانية، فكان العلاج الأنسب هو العلاج الكيماوي.
تقبلتُ كل ذلك الوضع، وكل تلك الأعراض حتى مع تساقط شعري الذي كنت أراه أمراً مؤلماً في بادئ الأمر، واستطعتُ أن أجعل من آثار هذه التجربة القاسية تغييرات إيجابية على شخصيتي وعلى حياتي أيضاً، فقد أصبحتُ شخصاً مختلفاً تماماً بعد مجابهتي لهذه المحنة التي قربتني من الله بشكلٍ كبير وزادت من قوة إيماني حتى كفّرت من ذنوبي، عرّفتني على الصبر، الإرادة، العزيمة والمواجهة، فما وجدته ابتلاءً بل وجدته امتحاناً.
قالت ضاحكةً: كنت أعتني بنفسيتي كونها الجزء الأهم في العلاج، لم أحرم نفسي من المطاعم، الزوارات للأهل والأصدقاء وحتى برك السباحة، حتى أنني أقمت احتفالاً بعيد ميلاد إبني في سنته الثانية رغم أنف جرعات الكيماوي.
وختمت حديثها قائلةً: أطلقتُ عليه اسم " مرض النعمة " لأن كل ما يُصيب ابن آدم هو مما يقدّره الله له، ولأن ربّ الخير لا يأتي إلا بالخير، ولأن الأمراض تطهر الذنوب، تزكّي النفوس وترفع الأعمال، فالبعض عندما يصاب بالمرض تجدهُ يكسر قلبك من حزنه واستسلامه وتهاوي روحه، أما البعض الآخر تجدُ في وجهه ابتسامة صفاء وتصالحٍ مع الكون وغالباً ما تكون هذه الفئة المستبشرة هي الأكثر عرضةً للشفاء.
ولكن ما ينقصني اليوم بعد تخرجي من جامعة البحرين بتخصص علم الاجتماع، وتكوين أسرة صغيرة أعتني بها وطفلٌ أراه يكبر أمامي، هو توظيف شهادتي الجامعية في منصب حكومي أشغله لأقتل الفراغ الذي أعيشه، فقد فشلت محاولاتي في التقديم لوظيفات عديدة، حتى عندما شاركتُ بحلمي في إحدى المبادرات الذين سعوا فيها لتحقيق أحلام المحاربين.