بين الحين والأخر يتناول الكتاب أو بعضهم ثيمة من ثيمات المجتمع الإنساني أو قضية من قضاياه، أو مسألة ظهرت لتوها على الواقع المعيش، وفي هذه الحال نجد الكتاب يتكالبون على التناول من زوايا مختلفة ومتعددة ووفقًا لرؤية كل واحد منهم. ولكن هناك من الكتاب الذين يتخذون لأنفسهم قضية معينة يسعون إلى بحثها ودراستها وطرحها وما تحمله من مشكلات وإشكاليات، في أشكال سردية وشعرية وفنية متعددة، مثل: الهويات والمرأة، والقضايا السياسية، والعلاقة مع الآخر، والمثلية، أو الولوج إلى التراث لقراءته قراءة جديدة، وكلما كان الكاتب حاملاً لقضية ما ويتمثل وعيًا ثقافيًا ومعرفيًا تتحول كتاباته إلى مشروع ثقافي أو سردي أو فني، وهذا ما نلمسه لدى بعض الروائيين في منطقة الخليج العربية، كأعمال الروائية السعودية رجاء عالم التي أعطت منطقة مكة وتاريخها وثقافتها مساحة كبيرة في رواياتها، أو الروائية السعودية زينب حفني التي يشكل عالم المرأة والمناداة بقضاياها هو مشروعها في كتاباتها، أو الهوية عند الكاتب البحريني فريد رمضان، وكذلك الروائي الكويتي سعود السنعوسي.
أما لو نظرنا إلى أعمال الروائي الكويتي ناصر الظفيري فإننا سنجد هوية الهمش والمقموع اجتماعيًا ونفسيًا وحياتيًا ماثلة ليس في الكتابات بل بين ثنايا تلك الكتابات نفسها، ألا وهي قضية (البدون)، أي هناك أفراد من المجتمع الكويتي لا يحملون الجنسية الكويتية، وأطلق على من لم يحملها (البدون)، وهي من أعقد الإشكاليات في المجتمع الكويتي، ومع الاستمرار في وجود هذه القضية تتعمق بجذورها، وتتفرع بأغصانها حتى تبيت هوية تحمل بين طياتها هواجس كثيرة تنحدر نحو الرغبة في الخلاص المجتمعي حين لا يقف معك، وهو ما ذهبت إليه العديد من مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنيت التي تشير إلى أكثر من (100) ألف مواطن كويتي لايزال ينتظر تحقيق الحلم في الحصول على الجنسية الكويتية. هكذا حاول بعض الكتاب (البدون) التعبير عن مأساتهم إبداعيًا وفنيًا في إطار المهمشين أو الهوية أو غير ذلك، مثل: الشاعرة سعدية مفرح، والشاعر محمد النبهان، والشاعر دخيل خليفة، وناصر فعل الشيء ذاته في جل أعماله السردية القصصية والروائية إن كان في سرد مباشر متجه إلى هوية البدون ومعاناتهم أم في سرد يتكشف عبر تقنيات الكتابة السردية.
أما هنا في هذه المقالة فسأقف عند رواية (سماء مقلوبة) التي طبعت ثلاث طبعات، وسأعتمد على الطبعة الثانية التي أصدرتها في العام 2011، دار مسعى للنشر والتوزيع، حيث يدخل الكاتب إلى عالم الرواية وسير أحداثها من خلال مدخل وحكايات الذاكرة الاجتماعية والثقافية، وكأن التي قسمها الكاتب إلي قسمين اثنين، قسم الأول الذي أسماه (الكتاب الأول) ضم بين دفتيه العديد من الفصول الصغيرة بأسماء مختلفة وبأرقام حسابية متسلسلة، أما القسم الثاني فهو (الكتاب الثاني) الذي أبعد عنه تقطيعه وتوزيعه إلى فصول أو أقسام صغيرة مكتفيًا بالعنوان الرئيس له، لكن في سياق كل أحداث الرواية يتضح أن الرواية قامت على المكان في الأصل سواء البيوت القديمة الخشبية، أم البيوت المبنية من الإسمنت التي حصلت عليها بعض عائلات منطقة الجهراء، كما اتكأت الروية على سرد ذكريات الراوي في سنين مختلفين، الأول حينما كان طفلاً حتى عمر المرحلة الثانوية، وهنا يحضر زمن الحربين العربيتين مع إسرائيل، أي حرب (67)، وحرب (73). ومن خلال هذه المرحلة العمرية يكشف الراوي عن مغامراته وأصدقائه في الحي والسوق ولعب القمار، والتحرش العفوي، فضلاً عن العراك الذي يحدث بين الحين والآخر مع الأقران. أما المرحلة الثالثة فتكمن في مرحلة الراوي الجامعية وعلاقته مع سار، والمصير الذي انتهت إليه سارة بموتها، والراوي بسفره.
وبمعنى آخر إن سرد أحداث الرواية ونمو أحداثها كان يقف الراوي على نوعين من الذكريات، تلك الذكريات التي تربطه مباشرة مع المكان، وهو صغير السن والصبا، وتلك الحماقات والشهوات العفوية التي تنطلق من الأفواه أو الأجساد بغية قضاء وقت ممتع مع الأقران والخلان، وهناك ذكريات تمحورت حول العلاقة العاطفية والروحية والتطلعات الوجدانية والحياتية التي كانت تتمركز في عمر الشباب والنضج، بمعنى ذكريات الطفولة والدراسة حتى الثانوية، وذكريات تمظهرت في المرحلة الجامعية وشقاوة الشباب والرغبات الجسدية المنفلتة.
المكان بين ذاكرة الماضي والحاضر
لم يبدأ الكاتب روايته - من خلال الراوي الذي لم يظهر اسمه إلا بعد حين - بزمن الماضي كأن يكتب أو يروي الحكاية من البداية حتى النهاية على أيقاع زمني تريب أفقي، وإنما داخل بين الأزمنة، بين الماضي والذكريات، والحاضر وما يقوم به، والمستقبل، وفي الوقت ذاته كان يداخل حتى الزمن الماضي بين ذكريات الطفولة وعمر المراهقة ومرحلة الدارسة الجامعية، مما أعطى العمل ميزة متفردة في العلاقة الزمنية بالمكان والشخصية، لذلك بدأ ما تنتهي به الرواية أصلاً، وهو السفر بعد كل محطات التعب والألم والحزن والخسران، بمعنى الاستعداد للسفر خارج مدينة الجهراء، وفي الواقع خارج دولة الكويت، من ذلك المكان الذي تغلغل في كيانه الاجتماعي والنفسي والعاطفي .. المكان الذي أحبه ونفر منه .. آمن بعلاقته معه ولكن كره توطيد العلاقة التي لا يكون الاحتضان بين طرفي المعادلة .. هكذا يسجل الراوي حالات تصيب القارئ بنوع من الألم، وبخاصة حين يتعرف تدريجيًا حالة الشخصية التي ولدت وتربت وعاشت رغبتها في ترك تاريخها وراءها لتكون على استعداد لاستقبال تاريخ جديد قد لا تعرف كنه آنيًا، ولكن تفضل الهروب من الماضي إلى المستقبل مباشرة وإن كان الحاضر الذي ستوجهه الشخصية ربما يكون مريرًا، أي الذهاب إلى البعيد هو ذهاب الرغبة والكره، والقبول والرفض، والهروب والفرصة.
بهذا التفكير الذي يغالب الراوي كان التوديع بينه وبين الأهل والرفاق والأصحاب كاشفًا معاناة الراوي نفسه في جغرافية مكانية تكاد تكون مغلقة على الذوات والمحصور فيها فئة من أفراد المجتمع أصيبوا بالغبن والألم والحسرة مما أحدث لهم جميعًا غربة داخلية تكبر بين اللحظة والأخرى لتمنع التخطيط لتحقيق الأحلام، وتعمير الطموحات، وبناء مستقبل الذات، هكذا كان الراوي يعيش أزمة الذات والمكان والحياة، فلم يستطع مشاركة الآخرين الذين هم خارج أمكنة التهميش في بناء الوطن والإنسان وتعمير الحياة في صورتها العامة، فكيف إذا كان المهمش يتميز بالثقافة والعلم والأدب والطموح، وفي الوقت نفسه يرى قيود القوانين والأنظمة تحول في تحقيق ذلك من جهة، والصفة التي يحملها (البدون) من جهة ثانية، مما يفرض عليه الواقع المعيش أن ينفر من كل هذه القيود التي تحاصره وتمنعه ليحلق في أمكنة أخرى قد تفتح له أبوابها ليقدم ما لديه.
وهنا تتكشف في التوديع مشاعر باردة، وعواطف ثقيلة الاحتمال، هكذا يبين الراوي أن الرحيل من المكان هو الفيصل الذي يقلب موازين المعادلة المجتمعية، ويغير اتجاه الوعي الذي يكشف له عالمًا آخر، وجغرافية أخرى، وثقافة أخرى، فقد يضع بصمة بين ثنايا كل هذا، فـ " لم يلتصق بذهني ما يستحق أن أحن إليه، هكذا أصبحت (الجهراء) مخلوقة كمخلوقات الذين فقدتهم برغبتي وبأقدارهم العجولة أحايين أخرى "( 1)، لذلك لم يعد يفكر في ماضيه الذي يحصره ويسجنه في عالم يؤكد فقد الحالة الحاضرة والمستقبلية، وهو ما جعله أن يبعد عن مخياله وتفكيره كل شيء يعيده إلى ما تركه أو يرغب في التخلص منه، فلا صور الماضي ولا حياته العفوية الطائشة ولا تلك الجماليات المكانية بكائناتها ستعيده إلى ما هرب منه، بل حتى الذين أصروا توديعه قبل صعود الطائرة رغب في نسيانهم والابتعاد عن مشاعرهم إلا ما استطاع بعضهم حفر اسمع على جدار القلب، وها هو يقول "أغمضت عيني لأمحو صورًا تداعت فجأة، مهابة وطيش، عواطف، دجاج، ضحايا وخشب مرتبك "( 2).
وبهذا الإغماض الذي لم يكن في ساعة الانتقال من حالة إلى أخرى، أو من مكان لآخر أو من الماضي إلى المستقبل، وإنما كانت هي مرحلة أولى للابتعاد الحقيقي عن المكان وما يحمله من ذكريات، ولكن هذا استطاع الراوي أن يترك تاريخه وماضيه وجزءًا من الزمن بغية التخلي والعيش في عالم آخر، إنه لم يستطع البتة، بل ذهب إلى عالم الذكريات واستعادة ماضيه وماضي تلك ذلك المكان وأفراد مجتمعه بين الحين الآخر في شكل نسيج من البوح الذي استدعى عبره الجهراء ومقبرة صليبخات، الفصول السنوية التي تشكل علامة في حياة الناس هناك (الجهراء) سواء في فصل الصيف أم الشتاء، والعلاقات الاجتماعية التي تغطي الواقع المعيش، هكذا تغلغلت ملامح الطقس في فصل الصيف حينما تحدث الراوي عن ملامح الظهيرة وحرارة الشمس المرتفعة الحارة للرؤوس والأبدان.
يبدأ الراوي بكشف حياة المكان في ظل التقلبات المناخية والطقس الحار والجاف، وكذلك البارد القارس، هكذا تحدث عن الظهيرة التي ليست كأي ظهيرة في الفصول حيث الطنين المتواصل، الظهيرة التي لا تقدر على مقاومتها أعين أو أرجل تسير على ترابها، الظهيرة المصير القادم من ذلك الارتفاع إلى تراب الأرض، ولكن هذه الظهيرة لم تمنع الأطفال أو الصبية من ممارسة حياتهم اليومية العادية، فالراوي يأخذنا إلى صباه مع رفاقه الذين يمرحون ويلعبون ويتنقلون من بقعة حارة لأخرى، ومن بيت لآخر بشغف عفوية الضجيج وممارسة الحياة دون تكلف، لذلك يحضر الماء المسال على الأجساد والرؤوس لتخفيف بعض هذا الجو الحارق، وهذا الطقس مارسه العديد من الأطفال والصبيان في المنطقة كلها، وبالأخص الذين ينتمون إلى المستويات الاقتصادية الهابطة والمتوسطة، " تحلقنا حول الزير في الظل الوهمي للجدار، روينا ظمأنا، وبللنا عروقنا اليابسة ثم أدخلنا رؤوسنا تباعًا في جوف الزير ونفضناها في وجوه بعضنا ثم غرفنا الماء بأيدينا على أجسادنا وملابسنا "( 3).
وكما طرح الراوي طبيعة الحياة مع الظهيرة بيّن حالة المجتمع (الجهراوي) حين يلم بالمكان عاصف أو طارئ أو عارض، ويتحول إلى بناء سردي يصف من خلاله الحياة التي تعصف بها العاصفة الشديدة وما تنتجه من غبار ثم خراب في المنازل والطرقات والشوارع، ولا يزول هذا الغبار الأحمر إلا بسقوط الأمطار التي تعمل على تنظيف الجو، وإعادة بريقه للحياة، ولكن هذه العاصفة والغبار عادة ما يفرضان على أفراد المكان التكاتف والتعاون والتعاضد كل بحسب إمكاناته ومجاله وقدراته العضلية والجسدية.
وهذا يعني العمل التعاوني الذي يميز العديد من المناطق الخليجية بشكل عام والقروية والريفية بشكل خاص، إذ نرى الرجال يسعون لتقديم المساعدة في البناء والتعمير لبعض الأهالي الذين لا يستطيعون القيام بذلك بمفردهم، وكذلك النسوة التي عادة تتجمع في وقت مين للعمل فيما بينهن، وها هو الراوي يؤكد ذلك بالقول: " قبل أن تخيم على الأفق كسحابة حمراء عملاقة، تراكضت عن وجه الأرض كائناتها الشقية، شيوخ بعباءات الوبر، أطفال، دواب ودجاج .. جمعت النسوة غسيلهن وأطفالهن .. أدخلن الدجاجات إلى القن والماشية إلى الحظيرة.. صعد الرجال بسرعة إلى أسقف المنازل يدقون مسامير كبيرة الحجم في أركان مهملة من الحجرات. صرخوا بالصبية أن يبتعدوا عن الطريق المفتوحة كي لا تلتصق بجباههم قطعة خشب طائرة أو صفيحة حديد مترنحة تحت وطأة العاصفة "ص23، وهذا هو مناخ الكويت وطقسها شديد الحرارة صيفًا وشديد البرودة شتاءً.
لم يكن رحيل الأب ليكون ماضيًا وانتهى الأمر، بل كأن الرواية تشير إلى تلك القيمة المعنوية والأخلاقية التي قدمتها السلطات الرسمية من خلال خطاب يؤكد قرار الدولة في نقل العائلة من منزلها المشيّد بالخشب وسعف النخيل إلى منزل شيّد بالإسمنت ومضاء بالكهرباء وتمديد أنابيب المياه، ومعـد به التكييف اتقاء حر الصيف الحارق، هكذا كانت الفرحة تلفح وجه الابن والأم معًا بعد معرفة ذلك من الخطاب المرسل لهما، " يطرق بابنا رجل بملابس مدنية، أخرج إليه. يسأل عن بيت والدي، يسلمني مظروفًا كبيرًا ويمضي إلي بيوت جيراننا. أفض المظروف. أخرج روقـة مختومة بختـم الحكومة. أقرأهـا على والدتي، أصرخ بعدها: سنرحل من هنا، سنرحل "(4)، وهكذا انتقلت العائلة مع بعض العائـلات إلى سكناها الجديد، ولأن سليمان لا يريد الماضي المؤلم ماثلاً بذاكرته كل حين أقر حرق المنزل القديم، رقد أوضح ذلك بعد ما سأله فلاح: " ماذا ستفعـل بمنزلكم هذا؟ أحرقـت المنزل للمرة الثانية ... "( 5).
الذاكرة الاجتماعية والمغامرة المنفلتة
بيّن رحلتهم كأصدقاء ثلاثة إلى السينما، لمشاهدة فيلم خلي بالك من زوزو، هؤلاء هم: الراوي (سليمان) وصديقيه فلاح، والأعشب (جعفر)، تلك الرحلة التي تحتاج إلى بعض من المال، وبعض من الهندام " لا يدخل السينما من لا يرتدي نعالاً"(6 )، الأمر الذي جعل بعضهم يلغي متعة الذهاب إلى السينما ومشاركة أصدقائه، وبعض من الرزانة، وقد تحقق الحصول على المال، والهندام الذي يكون مقبولا آنذاك، لكن ما لم يتحقق هو اللباقة والاحترام ورزانة الحضور والمشاهدة، بسبب أحد الحضور المتصف بقصر القامة، وبالمصادفة كانت جالسًا خلف فلاح صاحب الشعر الأجعد (القنفذ)، الذي اضطر في كل حين إلى إنزال رأس فلاح لمشاهدة اللقطات السينمائية عامة، والتي فيها نوع من البوح الجسدي بشكل خاص، " الفتى الذي يجلس خلف فلاح قصير القامة، يضغط رأس فلاح (القنفذ) إلى الأسفل، فلاح يرفع رأسه أكثر .. الفتى يضغطه بقوة إلى الأسفل .. يلتفت فلاح إليه يلطمه على وجهه .. ينهض الصـف الخلفي كاملاً، يشتبـك معنا وتنتهي الحفلة في منتصفها بدماء على ملابسنا "(7 ).
ومن تلك الذكريات التي أشارت لها الرواية ما ذكره الراوي وزواج الأهطل من نجوى وما آلت إليه الأحداث والأمور، فبعد ما كانت نجوى توهم سليمان بحبها وصداقتها له، تبين أنها لا تحب أحدً البتة، وإنما تسعى إلى تحقيق ملذاتها التي بدأت بزواجها من الرجل الأعمى، وخيانتها بنسج علاقة جسدية مع السائق علاء الذي أوقع نطفته فيها وأتت بسارة لتحمل اسم الأعمى، هذه المرأة خططت لإبعاد علاء من حياتها نهائيًا بقتله، وإبعاد سليمان برغبتها الزواج من الأهطل، على الرغم من لوك الكلام واسمها في الحي وعلاقاتها المشبوهة، لكنها غير مكترثة بذلك، وهكذا حدث الزواج بين الأهطل ونجوى بعد ما أعد الزوج البيت المناسب لهما.
الكاتب داخل بين الأزمنة ما أعطى العمل ميزة متفردة
وهذا هو الأهطل الذي كان خادمًا وعاملاً ومسيرًا حاجيات الحي والناس يتحول إلى من يخدمه في ليلة زواجه، " انقلب دور الأهطل .. سيخدمه الناس لا يخدمهم "( 8)، بهذا بات الرجل في ليلة عرسه محاطًا ببعض من الناس الذين ينتظرون وجبة العشاء، " فتوافد رجال قلة، وذبح الأهطل خروفين تركهما في الخيمة البيضاء لدى الطباخين "(9 )، غير أن الخروفين لم يكونا من مال الأهطل، وإنما مسروقان من حظيرة، " مر عرس الأهطل بسلام، اكتشفوا فيما بعد أن خرفين قد سرقا من الحظيرة الصغيرة التي بنيت بجوار الخيمة "( 10).
لم يكن زواج نجوى من الأهطل أمرًا يسيرًا وسهلاً على سليمان الذي عشق جسد نجوى، وتغلغلت رائحته بين خلايا جلده، وفي الوقت نفسه لم يستطع نسيان صديقه الأشيب الذي راح ضحية خطة عفنة أعدتها نجوى للتخلص من علاء الذي طعن الأشيب في أثناء محاولة الأخير قتل علاء نفسه، لذلك فكر سليمان في الانتقام ليس لعلاء وإنما لصديقه الأشيب (جعفر) الذي تركه يودع أنفاسه الأخيرة، " لم تكن أحاديث فلاح تهمني، قررت الثأر للأشيب، الذي تركته يموت، كيف ألقاه لو واجهته في الجحيم؟ بزي عذر ألتقيه؟ يا للخيبة! "( 11)، ربما يكون صائبًا فيما فكر فيه، ولكن أحداث الرواية وسيرة سليمان نفسه لا تستقيم بعض الشيء مع ما ذهب إليه، لما لذلك من علاقة دفينة يكنها سليمان إلى نجوى.
ولشدة هذا الخسران الذي قد يفقده من جهة، وتلك الأخبار التي تتناقل حول سلوك شخصية نجوى وعلاقاتها بالرجال الذين يدخلون سرًا إلى بيتها من جهة أخرى، من هنا فكر في الانتقام، وبخاصة بعد ما رأى رجلاً وكأنه شبح يدخل سرًا بعد خروج الأهطل من البيت، هكذا أوقف الزوج لينظر ما يجري في منزله بغيابه، وكيف يلطخ شرفه، "الشبح يتلفت يمنة ويسرة، يدفع الباب الخشبي ويدخل. يفتح الأهطل فمه. تتعطل ابتسامته البلهاء، تتدفق دموعه بصمت.. قلت له بحدة: هذا ما تفعله النساء! الرجال يغسلون عارهم.. دخلنا البيت.. طعنها الطعنة الأولى بصعوبة لكن الطعنات التالية كانت أكثر يسرًا .. لم تكتشف جثة نجوى ألا في اليوم التالي ... "( 12).
أما لو نظرنا إلى أعمال الروائي الكويتي ناصر الظفيري فإننا سنجد هوية الهمش والمقموع اجتماعيًا ونفسيًا وحياتيًا ماثلة ليس في الكتابات بل بين ثنايا تلك الكتابات نفسها، ألا وهي قضية (البدون)، أي هناك أفراد من المجتمع الكويتي لا يحملون الجنسية الكويتية، وأطلق على من لم يحملها (البدون)، وهي من أعقد الإشكاليات في المجتمع الكويتي، ومع الاستمرار في وجود هذه القضية تتعمق بجذورها، وتتفرع بأغصانها حتى تبيت هوية تحمل بين طياتها هواجس كثيرة تنحدر نحو الرغبة في الخلاص المجتمعي حين لا يقف معك، وهو ما ذهبت إليه العديد من مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنيت التي تشير إلى أكثر من (100) ألف مواطن كويتي لايزال ينتظر تحقيق الحلم في الحصول على الجنسية الكويتية. هكذا حاول بعض الكتاب (البدون) التعبير عن مأساتهم إبداعيًا وفنيًا في إطار المهمشين أو الهوية أو غير ذلك، مثل: الشاعرة سعدية مفرح، والشاعر محمد النبهان، والشاعر دخيل خليفة، وناصر فعل الشيء ذاته في جل أعماله السردية القصصية والروائية إن كان في سرد مباشر متجه إلى هوية البدون ومعاناتهم أم في سرد يتكشف عبر تقنيات الكتابة السردية.
أما هنا في هذه المقالة فسأقف عند رواية (سماء مقلوبة) التي طبعت ثلاث طبعات، وسأعتمد على الطبعة الثانية التي أصدرتها في العام 2011، دار مسعى للنشر والتوزيع، حيث يدخل الكاتب إلى عالم الرواية وسير أحداثها من خلال مدخل وحكايات الذاكرة الاجتماعية والثقافية، وكأن التي قسمها الكاتب إلي قسمين اثنين، قسم الأول الذي أسماه (الكتاب الأول) ضم بين دفتيه العديد من الفصول الصغيرة بأسماء مختلفة وبأرقام حسابية متسلسلة، أما القسم الثاني فهو (الكتاب الثاني) الذي أبعد عنه تقطيعه وتوزيعه إلى فصول أو أقسام صغيرة مكتفيًا بالعنوان الرئيس له، لكن في سياق كل أحداث الرواية يتضح أن الرواية قامت على المكان في الأصل سواء البيوت القديمة الخشبية، أم البيوت المبنية من الإسمنت التي حصلت عليها بعض عائلات منطقة الجهراء، كما اتكأت الروية على سرد ذكريات الراوي في سنين مختلفين، الأول حينما كان طفلاً حتى عمر المرحلة الثانوية، وهنا يحضر زمن الحربين العربيتين مع إسرائيل، أي حرب (67)، وحرب (73). ومن خلال هذه المرحلة العمرية يكشف الراوي عن مغامراته وأصدقائه في الحي والسوق ولعب القمار، والتحرش العفوي، فضلاً عن العراك الذي يحدث بين الحين والآخر مع الأقران. أما المرحلة الثالثة فتكمن في مرحلة الراوي الجامعية وعلاقته مع سار، والمصير الذي انتهت إليه سارة بموتها، والراوي بسفره.
وبمعنى آخر إن سرد أحداث الرواية ونمو أحداثها كان يقف الراوي على نوعين من الذكريات، تلك الذكريات التي تربطه مباشرة مع المكان، وهو صغير السن والصبا، وتلك الحماقات والشهوات العفوية التي تنطلق من الأفواه أو الأجساد بغية قضاء وقت ممتع مع الأقران والخلان، وهناك ذكريات تمحورت حول العلاقة العاطفية والروحية والتطلعات الوجدانية والحياتية التي كانت تتمركز في عمر الشباب والنضج، بمعنى ذكريات الطفولة والدراسة حتى الثانوية، وذكريات تمظهرت في المرحلة الجامعية وشقاوة الشباب والرغبات الجسدية المنفلتة.
المكان بين ذاكرة الماضي والحاضر
لم يبدأ الكاتب روايته - من خلال الراوي الذي لم يظهر اسمه إلا بعد حين - بزمن الماضي كأن يكتب أو يروي الحكاية من البداية حتى النهاية على أيقاع زمني تريب أفقي، وإنما داخل بين الأزمنة، بين الماضي والذكريات، والحاضر وما يقوم به، والمستقبل، وفي الوقت ذاته كان يداخل حتى الزمن الماضي بين ذكريات الطفولة وعمر المراهقة ومرحلة الدارسة الجامعية، مما أعطى العمل ميزة متفردة في العلاقة الزمنية بالمكان والشخصية، لذلك بدأ ما تنتهي به الرواية أصلاً، وهو السفر بعد كل محطات التعب والألم والحزن والخسران، بمعنى الاستعداد للسفر خارج مدينة الجهراء، وفي الواقع خارج دولة الكويت، من ذلك المكان الذي تغلغل في كيانه الاجتماعي والنفسي والعاطفي .. المكان الذي أحبه ونفر منه .. آمن بعلاقته معه ولكن كره توطيد العلاقة التي لا يكون الاحتضان بين طرفي المعادلة .. هكذا يسجل الراوي حالات تصيب القارئ بنوع من الألم، وبخاصة حين يتعرف تدريجيًا حالة الشخصية التي ولدت وتربت وعاشت رغبتها في ترك تاريخها وراءها لتكون على استعداد لاستقبال تاريخ جديد قد لا تعرف كنه آنيًا، ولكن تفضل الهروب من الماضي إلى المستقبل مباشرة وإن كان الحاضر الذي ستوجهه الشخصية ربما يكون مريرًا، أي الذهاب إلى البعيد هو ذهاب الرغبة والكره، والقبول والرفض، والهروب والفرصة.
بهذا التفكير الذي يغالب الراوي كان التوديع بينه وبين الأهل والرفاق والأصحاب كاشفًا معاناة الراوي نفسه في جغرافية مكانية تكاد تكون مغلقة على الذوات والمحصور فيها فئة من أفراد المجتمع أصيبوا بالغبن والألم والحسرة مما أحدث لهم جميعًا غربة داخلية تكبر بين اللحظة والأخرى لتمنع التخطيط لتحقيق الأحلام، وتعمير الطموحات، وبناء مستقبل الذات، هكذا كان الراوي يعيش أزمة الذات والمكان والحياة، فلم يستطع مشاركة الآخرين الذين هم خارج أمكنة التهميش في بناء الوطن والإنسان وتعمير الحياة في صورتها العامة، فكيف إذا كان المهمش يتميز بالثقافة والعلم والأدب والطموح، وفي الوقت نفسه يرى قيود القوانين والأنظمة تحول في تحقيق ذلك من جهة، والصفة التي يحملها (البدون) من جهة ثانية، مما يفرض عليه الواقع المعيش أن ينفر من كل هذه القيود التي تحاصره وتمنعه ليحلق في أمكنة أخرى قد تفتح له أبوابها ليقدم ما لديه.
وهنا تتكشف في التوديع مشاعر باردة، وعواطف ثقيلة الاحتمال، هكذا يبين الراوي أن الرحيل من المكان هو الفيصل الذي يقلب موازين المعادلة المجتمعية، ويغير اتجاه الوعي الذي يكشف له عالمًا آخر، وجغرافية أخرى، وثقافة أخرى، فقد يضع بصمة بين ثنايا كل هذا، فـ " لم يلتصق بذهني ما يستحق أن أحن إليه، هكذا أصبحت (الجهراء) مخلوقة كمخلوقات الذين فقدتهم برغبتي وبأقدارهم العجولة أحايين أخرى "( 1)، لذلك لم يعد يفكر في ماضيه الذي يحصره ويسجنه في عالم يؤكد فقد الحالة الحاضرة والمستقبلية، وهو ما جعله أن يبعد عن مخياله وتفكيره كل شيء يعيده إلى ما تركه أو يرغب في التخلص منه، فلا صور الماضي ولا حياته العفوية الطائشة ولا تلك الجماليات المكانية بكائناتها ستعيده إلى ما هرب منه، بل حتى الذين أصروا توديعه قبل صعود الطائرة رغب في نسيانهم والابتعاد عن مشاعرهم إلا ما استطاع بعضهم حفر اسمع على جدار القلب، وها هو يقول "أغمضت عيني لأمحو صورًا تداعت فجأة، مهابة وطيش، عواطف، دجاج، ضحايا وخشب مرتبك "( 2).
وبهذا الإغماض الذي لم يكن في ساعة الانتقال من حالة إلى أخرى، أو من مكان لآخر أو من الماضي إلى المستقبل، وإنما كانت هي مرحلة أولى للابتعاد الحقيقي عن المكان وما يحمله من ذكريات، ولكن هذا استطاع الراوي أن يترك تاريخه وماضيه وجزءًا من الزمن بغية التخلي والعيش في عالم آخر، إنه لم يستطع البتة، بل ذهب إلى عالم الذكريات واستعادة ماضيه وماضي تلك ذلك المكان وأفراد مجتمعه بين الحين الآخر في شكل نسيج من البوح الذي استدعى عبره الجهراء ومقبرة صليبخات، الفصول السنوية التي تشكل علامة في حياة الناس هناك (الجهراء) سواء في فصل الصيف أم الشتاء، والعلاقات الاجتماعية التي تغطي الواقع المعيش، هكذا تغلغلت ملامح الطقس في فصل الصيف حينما تحدث الراوي عن ملامح الظهيرة وحرارة الشمس المرتفعة الحارة للرؤوس والأبدان.
يبدأ الراوي بكشف حياة المكان في ظل التقلبات المناخية والطقس الحار والجاف، وكذلك البارد القارس، هكذا تحدث عن الظهيرة التي ليست كأي ظهيرة في الفصول حيث الطنين المتواصل، الظهيرة التي لا تقدر على مقاومتها أعين أو أرجل تسير على ترابها، الظهيرة المصير القادم من ذلك الارتفاع إلى تراب الأرض، ولكن هذه الظهيرة لم تمنع الأطفال أو الصبية من ممارسة حياتهم اليومية العادية، فالراوي يأخذنا إلى صباه مع رفاقه الذين يمرحون ويلعبون ويتنقلون من بقعة حارة لأخرى، ومن بيت لآخر بشغف عفوية الضجيج وممارسة الحياة دون تكلف، لذلك يحضر الماء المسال على الأجساد والرؤوس لتخفيف بعض هذا الجو الحارق، وهذا الطقس مارسه العديد من الأطفال والصبيان في المنطقة كلها، وبالأخص الذين ينتمون إلى المستويات الاقتصادية الهابطة والمتوسطة، " تحلقنا حول الزير في الظل الوهمي للجدار، روينا ظمأنا، وبللنا عروقنا اليابسة ثم أدخلنا رؤوسنا تباعًا في جوف الزير ونفضناها في وجوه بعضنا ثم غرفنا الماء بأيدينا على أجسادنا وملابسنا "( 3).
وكما طرح الراوي طبيعة الحياة مع الظهيرة بيّن حالة المجتمع (الجهراوي) حين يلم بالمكان عاصف أو طارئ أو عارض، ويتحول إلى بناء سردي يصف من خلاله الحياة التي تعصف بها العاصفة الشديدة وما تنتجه من غبار ثم خراب في المنازل والطرقات والشوارع، ولا يزول هذا الغبار الأحمر إلا بسقوط الأمطار التي تعمل على تنظيف الجو، وإعادة بريقه للحياة، ولكن هذه العاصفة والغبار عادة ما يفرضان على أفراد المكان التكاتف والتعاون والتعاضد كل بحسب إمكاناته ومجاله وقدراته العضلية والجسدية.
وهذا يعني العمل التعاوني الذي يميز العديد من المناطق الخليجية بشكل عام والقروية والريفية بشكل خاص، إذ نرى الرجال يسعون لتقديم المساعدة في البناء والتعمير لبعض الأهالي الذين لا يستطيعون القيام بذلك بمفردهم، وكذلك النسوة التي عادة تتجمع في وقت مين للعمل فيما بينهن، وها هو الراوي يؤكد ذلك بالقول: " قبل أن تخيم على الأفق كسحابة حمراء عملاقة، تراكضت عن وجه الأرض كائناتها الشقية، شيوخ بعباءات الوبر، أطفال، دواب ودجاج .. جمعت النسوة غسيلهن وأطفالهن .. أدخلن الدجاجات إلى القن والماشية إلى الحظيرة.. صعد الرجال بسرعة إلى أسقف المنازل يدقون مسامير كبيرة الحجم في أركان مهملة من الحجرات. صرخوا بالصبية أن يبتعدوا عن الطريق المفتوحة كي لا تلتصق بجباههم قطعة خشب طائرة أو صفيحة حديد مترنحة تحت وطأة العاصفة "ص23، وهذا هو مناخ الكويت وطقسها شديد الحرارة صيفًا وشديد البرودة شتاءً.
لم يكن رحيل الأب ليكون ماضيًا وانتهى الأمر، بل كأن الرواية تشير إلى تلك القيمة المعنوية والأخلاقية التي قدمتها السلطات الرسمية من خلال خطاب يؤكد قرار الدولة في نقل العائلة من منزلها المشيّد بالخشب وسعف النخيل إلى منزل شيّد بالإسمنت ومضاء بالكهرباء وتمديد أنابيب المياه، ومعـد به التكييف اتقاء حر الصيف الحارق، هكذا كانت الفرحة تلفح وجه الابن والأم معًا بعد معرفة ذلك من الخطاب المرسل لهما، " يطرق بابنا رجل بملابس مدنية، أخرج إليه. يسأل عن بيت والدي، يسلمني مظروفًا كبيرًا ويمضي إلي بيوت جيراننا. أفض المظروف. أخرج روقـة مختومة بختـم الحكومة. أقرأهـا على والدتي، أصرخ بعدها: سنرحل من هنا، سنرحل "(4)، وهكذا انتقلت العائلة مع بعض العائـلات إلى سكناها الجديد، ولأن سليمان لا يريد الماضي المؤلم ماثلاً بذاكرته كل حين أقر حرق المنزل القديم، رقد أوضح ذلك بعد ما سأله فلاح: " ماذا ستفعـل بمنزلكم هذا؟ أحرقـت المنزل للمرة الثانية ... "( 5).
الذاكرة الاجتماعية والمغامرة المنفلتة
بيّن رحلتهم كأصدقاء ثلاثة إلى السينما، لمشاهدة فيلم خلي بالك من زوزو، هؤلاء هم: الراوي (سليمان) وصديقيه فلاح، والأعشب (جعفر)، تلك الرحلة التي تحتاج إلى بعض من المال، وبعض من الهندام " لا يدخل السينما من لا يرتدي نعالاً"(6 )، الأمر الذي جعل بعضهم يلغي متعة الذهاب إلى السينما ومشاركة أصدقائه، وبعض من الرزانة، وقد تحقق الحصول على المال، والهندام الذي يكون مقبولا آنذاك، لكن ما لم يتحقق هو اللباقة والاحترام ورزانة الحضور والمشاهدة، بسبب أحد الحضور المتصف بقصر القامة، وبالمصادفة كانت جالسًا خلف فلاح صاحب الشعر الأجعد (القنفذ)، الذي اضطر في كل حين إلى إنزال رأس فلاح لمشاهدة اللقطات السينمائية عامة، والتي فيها نوع من البوح الجسدي بشكل خاص، " الفتى الذي يجلس خلف فلاح قصير القامة، يضغط رأس فلاح (القنفذ) إلى الأسفل، فلاح يرفع رأسه أكثر .. الفتى يضغطه بقوة إلى الأسفل .. يلتفت فلاح إليه يلطمه على وجهه .. ينهض الصـف الخلفي كاملاً، يشتبـك معنا وتنتهي الحفلة في منتصفها بدماء على ملابسنا "(7 ).
ومن تلك الذكريات التي أشارت لها الرواية ما ذكره الراوي وزواج الأهطل من نجوى وما آلت إليه الأحداث والأمور، فبعد ما كانت نجوى توهم سليمان بحبها وصداقتها له، تبين أنها لا تحب أحدً البتة، وإنما تسعى إلى تحقيق ملذاتها التي بدأت بزواجها من الرجل الأعمى، وخيانتها بنسج علاقة جسدية مع السائق علاء الذي أوقع نطفته فيها وأتت بسارة لتحمل اسم الأعمى، هذه المرأة خططت لإبعاد علاء من حياتها نهائيًا بقتله، وإبعاد سليمان برغبتها الزواج من الأهطل، على الرغم من لوك الكلام واسمها في الحي وعلاقاتها المشبوهة، لكنها غير مكترثة بذلك، وهكذا حدث الزواج بين الأهطل ونجوى بعد ما أعد الزوج البيت المناسب لهما.
الكاتب داخل بين الأزمنة ما أعطى العمل ميزة متفردة
وهذا هو الأهطل الذي كان خادمًا وعاملاً ومسيرًا حاجيات الحي والناس يتحول إلى من يخدمه في ليلة زواجه، " انقلب دور الأهطل .. سيخدمه الناس لا يخدمهم "( 8)، بهذا بات الرجل في ليلة عرسه محاطًا ببعض من الناس الذين ينتظرون وجبة العشاء، " فتوافد رجال قلة، وذبح الأهطل خروفين تركهما في الخيمة البيضاء لدى الطباخين "(9 )، غير أن الخروفين لم يكونا من مال الأهطل، وإنما مسروقان من حظيرة، " مر عرس الأهطل بسلام، اكتشفوا فيما بعد أن خرفين قد سرقا من الحظيرة الصغيرة التي بنيت بجوار الخيمة "( 10).
لم يكن زواج نجوى من الأهطل أمرًا يسيرًا وسهلاً على سليمان الذي عشق جسد نجوى، وتغلغلت رائحته بين خلايا جلده، وفي الوقت نفسه لم يستطع نسيان صديقه الأشيب الذي راح ضحية خطة عفنة أعدتها نجوى للتخلص من علاء الذي طعن الأشيب في أثناء محاولة الأخير قتل علاء نفسه، لذلك فكر سليمان في الانتقام ليس لعلاء وإنما لصديقه الأشيب (جعفر) الذي تركه يودع أنفاسه الأخيرة، " لم تكن أحاديث فلاح تهمني، قررت الثأر للأشيب، الذي تركته يموت، كيف ألقاه لو واجهته في الجحيم؟ بزي عذر ألتقيه؟ يا للخيبة! "( 11)، ربما يكون صائبًا فيما فكر فيه، ولكن أحداث الرواية وسيرة سليمان نفسه لا تستقيم بعض الشيء مع ما ذهب إليه، لما لذلك من علاقة دفينة يكنها سليمان إلى نجوى.
ولشدة هذا الخسران الذي قد يفقده من جهة، وتلك الأخبار التي تتناقل حول سلوك شخصية نجوى وعلاقاتها بالرجال الذين يدخلون سرًا إلى بيتها من جهة أخرى، من هنا فكر في الانتقام، وبخاصة بعد ما رأى رجلاً وكأنه شبح يدخل سرًا بعد خروج الأهطل من البيت، هكذا أوقف الزوج لينظر ما يجري في منزله بغيابه، وكيف يلطخ شرفه، "الشبح يتلفت يمنة ويسرة، يدفع الباب الخشبي ويدخل. يفتح الأهطل فمه. تتعطل ابتسامته البلهاء، تتدفق دموعه بصمت.. قلت له بحدة: هذا ما تفعله النساء! الرجال يغسلون عارهم.. دخلنا البيت.. طعنها الطعنة الأولى بصعوبة لكن الطعنات التالية كانت أكثر يسرًا .. لم تكتشف جثة نجوى ألا في اليوم التالي ... "( 12).
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص11.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص12.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص18.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص128.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص130-129.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص27.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص29.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص118.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص117.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص119.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص115.
- ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص127-126