وفي الوقت نفسه يوظف المتخيل ليوهم القارئ بواقعية المتخيل، وكأن ما يقوله ليس من نسيج الخيال، وهذا ما طرحه الراوي حينما تحدث عن لقائه مع الفلكي الذي رفض شرب أي شيء محرم وفضل شرب الماء، مؤكداً أن "من يعمل عملنا هذا يكون قريباً من الله، ويبتعد عن محرماته "([1])، ومن خلال حوارهما أوضح الفلكي العلاقة بين الشخصية وعالم الفلك بدءاً من الولادة، وهذا ما أشار بأن الراوي سيكون أحد رجالات الدولة المهمين على ألا يعارض قدره المقسوم إليه، أي أشار الفلكي أن الراوي سيكون له شأن كبير في بلده كما كان لآخرين من تاريخ الإنسانية، مثل: القائد العسكري الإسكندر الأكبر المولود في العام 306 قبل الميلاد، وملك اليونان جورج الأول الذي كان أميراً دنماركياً المولود في العام 1845، وملك بريطانيا جورج الثاني المولود في العام 1683، كما له شأن مثل مستشار ألمانيا بسمارك المولود في العام 1815، منتقلاً من الجانب العسكري والسياسي إلى الجانب الفني والجمالي والإبداعي حين أشار الفلكي بشوبان المؤلف الموسيقي البولندي المولود في العام 1810، بالناقد الأمريكي ألن بو المولود في العام 1809، والممثلة بريجيت باردو المولودة في العام 1924، لهذا قال له "اسمع أيها الشاب: لا تعارض أقدارك. إنها تسير حيث سعادتك، مناقضة ما تريد أنت "([2]). لكن واقع تلك الأحداث التي بنت الراوية عالمها من خلاله لم يكن من هذه التوقعات والتنجيم إلا الفراغ المميت الذي واكب حياة الراوي منذ ولادته حتى انتهى به الأمر إلى السفر بعيداً عن عالم عذب نفسه فيه.
ويعيش الذكريات في تلك العلاقة بينه وبين سارة التي رحلت عن دنياه تاركة الجـرح في القلـب وفي التفكير، بعد صدمـة الخبـر وسبب الموت، إذ عرف ذلك من إحدى زميـلات الجامعة حيـن راح يتفقـد الحضور بالقاعة ولم يجد سارة، حينها كتبت الفتاة ورقة صغيرة تعظم له الأجر، قد ذكرهـا الراوي "الفتاة تكتب ورقة صغيرة "البقية في حياتك" نهضت من مقعدي همست بأذنها "هل مات الدكتور؟" قالت: لا. سارة .. ارتفع صوتي نعم! أكملتْ وجدوها ميتة صباح اليوم .. خرجت من القاعة إلى الجمعية الطلابية لأتصل بها .. رأيت زميلة لنا تكتب نعياً على لوحة بيضاء .. قرأت اسمها. سألتها كيف ماتت؟ وأشارت إلى السماء "([3]).
ولكن كيف تعرف سارة، ومن هي هذه الطالبة، حيث تشير الأحداث أن العلاقة التي ربطت سليمان بنجوى جعلته يتعرف مباشرة على الفتاة الجامعية سارة، أما كيف حدث هذا وتطور، فهي حكاية أخرى نسجها الراوي لتعطي الراوية بعداً عاطفياً مغايراً لمجرى الأحداث، إذ بعد إنهاء المرحلة الثانوية دخل الراوي الجامعة ليتخصص بعلم الاجتماع، " أنا طالب في قسم الاجتماع دون أن أعي المعنى الحقيقي للكلمة "([4])، ولكن الظروف شاءت بانتقاله إلى تخصص اللغة الإنجليزية بعد أن تقدمت إليه إحدى الطالبات تسأله عن انتقالهم من السكن القديم إلى السكن الجديد، وفي شيء من الدونية والاستهزاء، الأمر الذي جعل رده قاسياً، وبخاصة حين شاهد الفتيات الأخريات يتضاحكن، "متى تركتم عشتكم .. منذ أن ترك أبوك حماره!! "([5]).
بل حين رأى اسم "سارة عبدالكريم أحمد" كأن حالة غير طبيعة تغلغلت في جوفه وأخبرته بأن هذه الفتات تعرفها من قبل، إلا أنها لم تكن مبالية بأمره حتى وقعت قرعة الدكتور الذي يقدم لهم المادة ليكون هو أي الراوي مع سارة في مجموعة يعملان معاً ما يطلب منهما من واجبات وفروض، وهكذا تدريجياً أدخلته في عالم غير عالمه سواء في هندامه " دخلت صالون حلاقة رجالي، نقدت صاحبه ورقة مالية، حدثته بصوت لم أسمعه .. رمقني الحلاق .. أشار أن أجلس .. راج الحلاق يداعب شعري بيديه ثم يغسلهما، أدار الكرسي وأسقط رأسي في حوض الماء بعنف وتأفف دون أن يلتفت إلى "([6])، فضلاً عن بعض حاجيات المتعلقة باللباس، وتكوين العلاقـة من زمالة طلابيـة إلى صداقـة طلابية إلى علاقة عاطفية بينهما انتهت بهما إلى السفر وحدهما إلى باريس، تلك الرحلة التي غيرت مجرى الكثير من حياة سليمان التي حاول باسم الحب الوصـول إلى جسدهـا بعد ما سعـت سارة إلى تنمية شخصيتـه الاجتماعيـة بيـن زملائـه في الجامعـة وفي النشاط الطلابي وفي توجهاتـه الثقافية والفكريـة حيـن حدثته عن الجمعية الطلابية واتحاد الطلبة والترشح لمجلس الإدارة، حيـث طلبت أن يقرأ مجموعة من الكتب والمقالات على أن يتناقشا معاً بعد قراءتها، "لم أكن فكرت قبل اليوم بقراءة هذه الكتب، لم يكن يهمني. كانت الكتب تتحدث في مجملها عن القومية والاشتراكية، أواصل قراءتها بإخلاص المحب لسارة ليس إلا، لكن المساحات الشاغرة في عقلي بدأت تمتلئ شيئاً فشيئا بأفكار ذات اتجاه واحد "([7]).
تطلب سارة من سليمان السفر إلى باريس، يوافق الراوي على الطلب طامعاً في الانقضاض على فريسة كما كان يعتقد، ويظن أن سارة أخذت الأثر في السلوك غير السوي من أمها نجوى، فالمحاولات التي كان يقوم بها في الكويت لم تفلح ولم تأت بنتيجة تلبي غروره الشهواني والحيواني، لذلك أعتقد أن الفرصة سانحة حينما يكونان خارج المكان، وفي الوقت نفسه يقر سليمان بأن سلوكه تجاهه يفسد العلاقة بينهما، "ما يؤلمني أنني لم أمنحها فرصة لتثق بي، شجاعتي المعدومة في التخلص من ذهني البائس، رغبتي النافرة كعربة مسرعة تقودها جياد الدم باتجاه واحد "([8]) ، ومع استمرار محاولاته تقع سارة فريسة عنفوان الشهوة ورغبات سليمان التي لا تهدأ ولا تنطفئ، تمكن بعد مشاهدة الفيلم أن يكون شيئاً من جسده في رحم جسدها، " ألقي ظهري على السرير، حملت سارة أشياءها مهرولة إلى غرفتها تصرخ .. ستتزوجني، أعرف أنك شهم .. لا تكوني شرقية .. أنت تقتلني .. نتخلص منه .. سأحاول .. أتابع الانتفاخ الصغير المكور في منتصف بطنها .. أفكر بالهرب منها .. نجحت هي في التخلص مني ومن نفسها .. أنهت كل قلقي "([9]).
أشارت الرواية إلى أحد الأكاديميين وما يحظى به من تقدير واحترام بين الطلبة لما يتمتع به من جرأة في الطرح، وتنمية عقول الطلبة تجاه القومية والاشتراكية والنضال، ونكران الذات وحب الآخرين، لكن المفاجأة التي قلبت موازين التفكير عند سليمان حينما زار هذا الدكتور بطلبه الأخير وبمعية سارة وتبدلت القناعات، وظهر التزييف أمام الواقع المعيش، إذ تفاجأ سليمان حينما ذهب إلى منزل الدكتور جاسم ليرى قصراً وليس منزلاً، وليقف منتظراً بأمر من مدبرة المنزل حتى يؤذن له ومن معه بالدخول، هكذا "توقفتْ أمام قصر كبير .. أمام سيارات بريطانية ضخمة تحميها مظلات سميكة من حرارة الشمس الحارقة .. تأملت داخل القصر. ثريات كريستال إيطالية، سجاد حرير أعجمي، تحف نحاسية، مرآة ضخمة مؤطرة بزخارف ذهبية ..... "([10]).
ونتيجة إلى الاستغراب والدهشة من مناضل يعيش كالملوك والأمراء، ويدعو الناس إلى البساطة والنضال والحقوق والقومية، بين سليمان رأيه إلى سارة بالقول: "أهذا هو المناضل؟ هل تعرفين لماذا يناضل هذا؟ لكي لا يناضله أحد "([11]). أي أن الزيف واضح لدى بعض المثقفين، وبأعمالهم التي لا تتوافق وأفكارهم وتوجهاتهم يفقد هؤلاء مشروعيتهم الفكرية وأحقيتهم في لم الجماهير، والحديث عن التضحيات، وبخاصة حينما تتكشف الأمور أكثر لدى الناس تجاه من هم القدوة والعبرة في النضال، لذلك أوضح الراوي هذا الألم والخذلان والحسرة بقوله: "كنا نترقب ما يحدث في بلد ما. نستغله بمقياس حناجرنا ووعينا، نتبرع بمصرفنا اليومي لمقاتلين ينامون في فنادق روما، ويعاشرون بنات أثينا، يقامرون في لاس فيجاس، يتزوجون في أمريكا، ويتظاهرون في حولي "([12]).
وهو الأمر نفسه يحدث بالشبه في يومنا هذا، فالأحداث التي عصفت بالعالم العربي باسم الربيع كانت نقمة على العرب وليس نعمة، كانت محرقة وليس جنة، بين هذا الخضم برزت مجاميع من الكتاب والمثقفين والمناضلين المؤدلجين يزايدون على النضال الشعبوي والنضال الصادق والمطالب بالعدالة الاجتماعية لا من أجل ذات طائفية أو عرقية أو قومية أو مذهبية أو غير ذلك من الهويات التي باتت قاتلة للشعوب أكثر منها حاضنة لهم.
وإذا كان المناضل أو المثقف دخل في دهليز الزيف والخداع، فإن الراوي لم يكن إلا أحد هؤلاء المزيفين الذين يستغلون الظروف والزمن من أجل الحصول على ملذاتهم ورغباتهم، وهنا لا نحاكم سلوكيات الراوي أو سليمان أو أصدقاءه "فلاح أو الأشيب" ولكن نسأله حينما بات رجلاً يتحمل المسؤولية الأخلاقية والأدبية والإنسانية، التي طمسها ودفنها، وسعى جاهداً للوصول إلى سارة التي أحبته بعاطفة صادقة، وحب طاهر، وبثقافة واعية تجاه العلاقة بين الرجل والمرأة، إلا أن خان كل هذا واستل من سارة ما كانت محافظة عليه بحجة العاطفة والحب في الوقت الذي رفض رفضاً قاطعاً الزوج منها، وهذا لا يختلف البتة عن استغلال عواطف الجماهير تجاه من يدعون النضال وقيادته في عالمنا العربي.
النهايات المؤلمة
عبر فضاء الرواية وأحداثها المتعددة والمختلفة زمنياً ومكانياً وتوجهاً، تتكشف لنا نهايات متنوعة ومتباينة، وبحسب العملية الإحصائية نجد هناك ثلاث أنواع من النهايات، وتكمن النهاية الأولى في الموت، والنهاية الثانية في الانتقال المادي المكاني، والنهاية الثالثة في البعد الوجداني والنفسي، ولكي نوضح ذلك نقف عند هذه النهايات:
النهاية الأولى:
تكشف الرواية عن المغامرات التي كانت الصبية يقومون بها وإن تعدت حالة السرقة والنهب والاعتداء الجسدي، فإن التعدي وصل إلى القتل، هكذا قتل بو راسين نتيجة عراك بين الفتيان، أما رحيل الأب فهي قصة مختلفة حيث أبعادها تكمن في النضال والدفاع عن حياض الأمة العربية وحرب العرب مع إسرائيل، لذلك رحيله هو الشهادة والبطولة والفداء، ويأتي رحيل صديق الراوي الذي مات بعد ما خطط الاثنان لقتل علاء، وبالطعنة التي وجهها علاء للأشيب كان الآخر في عداد الأموات، بل تستمر هذه النهايات بموت عاشقة سليمان والراغبة في العلاقة الجسدية التي لم تعد محصورة بينها وبينه، وإنما تعدت إلى رجال آخرين، وبهذا التعدي ذهبت ضحيته نجوى بيد زوجها الأهطل لتكون في عداد الأموات، لتلحقها زبنتها سارة التي أحبت سليمان، إلا أنه كان يكيد لها الخطط للإطاحة بها حتى رحلت من عالم الدنيا بسرها المدفون في رحمها، هكذا كانت نهايات امرأتين وثلاثة رجال كان سليمان طرفاً مباشراً في أربع منها، كما أن سبب موت الأعمى هي نجوى التي كانت تخونه.
النهاية الثانية:
وتكمن في تلك البيوت التي بنيت من الأخشاب وسعف النخيل، وتصبح ضعيفة أمام الرياح والغبار والأمطار، هذا البيوت التي تموت ليحييها تشييداً مرة أخرى سواعد أهالي الحي، حتى جاء فرج الرحيل منها حين أقدمت الحكومة على نقل العديد من الأسر والعائلات إلى بيوت بنيت من الإسمنت، ومعدة للسكن الطبيعي لما تتصف من قدرة على حماية ساكنيها حر الصيف وبرد الشتاء، وهنا يأني نهاية مكان سكني إلى مكان سكني آخر، أما النهاية المكانية الأخرى فهي السفر الذي أقدم عليه الراوي تاركاً تاريخاً ممزقاً وماضياً متشعباً وحياة مضطربة، ليكون في مكان جغرافي آخر قد يتمكن من بناء ذاته أو ترميمها ليصبح أكثر توزناً في حياته.
النهاية الثالثة:
في تلك الأنانية التي تغلغلت في ذهنية الراوي، ولم يستطع التخلي عنها، تلك الذاتية والأنانية المتمظهرة في علاقاته الجسدية مع نجوى، وموافقته على إقناع الأشيب بقتل علاء، وتحريض الأهطل بقتل نجوى، والهروب مما فعله بسارة التي أفرحه موتها الذي دفن سر حملها، بل حتى سفره تاركاً أمه تلوك الحياة ومعاناة العيش والبقاء بمفردها، فهذه أنانية أيضًا. وبهذا نجد هذه النهايات كان بدؤها العنوان الذي قلب كل موازين الحياة فلم يعد كل شيء في وضعه الطبيعي لا الحياة ولا المكان ولا الإنسان ولا المبادئ والأفكار والتوجهات ولا العواطف، كل شيء صار مقلوباً، وفي كل الأحداث لم يستحوذ الراوي على كل صفحات الرواية، وإنما جعل لكل شخصية ذات أثر في الأحداث ونموها دورًا يتشارك فيه بين الراوي والشخصية نفسها، فحين تناول الحديث عن نجوى لم يكتف بسرد حياتها وظروفها بقدر ما تداخل معها في حوار أو جعلها تتحدث بمفردها، وهكذا بالنسبة إلى الشخصيات الأخرى، ولكن ليس بالتساوي وإن أخذت كل شخصية فصلاً أو فصلين لذاتها وأحداثها.
[1] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص20.
[2] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص22.
[3] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص25.
[4] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص133.
[5] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص134.
[6] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص164.
[7] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص162.
[8] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص170.
[9] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص174.
[10] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص166.
[11] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص167.
[12] - ناصر الظفيري، سماء مقلوبة، ص163.