عبد الله زهير

من عراقة بلاد أنجبت شعراء ما يزال يحتفي بهم التاريخ الثقافي العربي والعالمي، وليس الشاعر الكبير محمد الفيتوري عنا ببعيد، فقد عرفنا السودان به ومن خلال شعره. وليس أصدق من الإبداع نافذة نطل منها نحو التاريخ والجغرافيا والإنسان في أوطان ننتمي إليها لغة وثقافة وأحلاماً.

ضوء الإعلام بإغرائه الفاقع لم يسرقها عن قنديل بحجم مجرة اسمه الشعر. مشغوفة يشدها الشوق إلى الشعر جاءت. وجئنا خاضعين لمشيئة الشعر ولهوائه الشافي والشفاف. كما لو أن النسيم الذي سنتذوقه شفيفا هنا وسنشعر به عميقاً في دواخلنا يأتي من هناك، من جبال مدينة كسلا، من طين نهر القاش الهادر، ومن ملتقى رافدي النيلين، الأزرق والأبيض، في الخرطوم.

تقول: "الشعر فلسفة كونية، ومنهج حياة"، وفي هذا القول ما يكشف سر تميز اللغة في شعرها. نقرأه ونستمع لإلقائها له بطريقة تشي بالمحبة والمكابدة الغامرتين، رصيناً متيناً متقن الإيقاع والتركيب. ومن هنا تتكشف لدينا أسرار هذا الإيقاع الذي يتضافر فيه عمق الفكرة ورشاقة الشكل لينسجان معاً وشيعة مضيئة واحدة تسمى القصيدة. وهكذا يتجسدن هذا البعد، أقصد اتخاذ الشعر منهجاً حياتياً وطريقة تفكير، بوصفه حياة كاملة بالمعنى الوجودي الكياني العميق: عش للمساء وللنسائم والسحر.. عش للعشيات المبللة الثياب من المطر.. عش للقصيد يزور بيتك رائعاً مثل القمر.

تجربة شعرية وثقافية مهمة على خارطة الإبداع العربي بشتى تجلياته، بصفتها ذات نشاط إعلامي وثقافي يشعرن الأزمنة والمكانات ويؤنثها، و"كل مكان لا يؤنث، لا يعول عليه" كما يقول شيخنا الكبير محيي الدين بن عربي. وفي السفر نحو هذا الفعل التأنيثي الذي يطمح إلى بلوغ اللانهائي في كل شيء، لا بد من ركوب أهوال الطريق وعذاباته، ولا بد من استلذاذ هذه المجابهة الوجودية. إذ لا فرار وهذا التحدي أبداً ماثل في الدواخل، دواخل كل ما ينتمي للكيان الأنثوي: بابان تدخل كل أوجاعي إلى رئتي، جحيماً منهما: أني ارتضيت العمر شعراً جامحاً قلقا وأني جئت من نون النساء.. قلبي على نون النساء.

وليس لهذه الرؤية الشعرية من مناص إلا أن تمتزج في بوتقتها فضة المعنى الإنساني النبيل بذهب التراث الأصيل. وليس لها إلا أن تفشي أسرار هذا الوجع الممتد كرمح مركوز في عمق الذاكرة، ذاكرة الوطن والإنسان: وطرقت يا خنساء بابك مرة أخرى.. وألقيت السلام.. ردي علي تحيتي.. قولي فإني لم أعد أقوى على نار الكلام.. فلقد بكيت هناكَ صخراً واحداً.. والآن أبكي ألف صخر كل عام.