تعددت أشكال المقاولة وصورها في العصر الحاضر، وكثر الإقبال عليها سواء على الصعيد الحكومي بإنشاء كثير من المرافق الحيوية، أو على الصعيد الخاص في الإنشاء والتعمير، ويزداد حجم المقاولات كل عام في مختلف الدول، مما كان لها أثر واضح في اقتصاد البلاد وفي أوضاع العاملين في هذا القطاع، مما أوجب تنظيم عقد المقاولة في القوانين المدنية المعاصرة .

والمقاولة عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء بدل يتعهد به الطرف الآخر، دون أن يكون تابعاً له أو نائباً عنه وقد حلت المقاولة محل كل من الاستصناع وإجارة الأعمال في التنظيم القانوني، وأصبحت منفصلة عن هذين العقدين فإذا قدم المقاول العمل والمواد فهي كالاستصناع، وإن قدم المقاول العمل فقط فهي إجارة على العمل.

ويعتبر عقد المقاولة مشروعاً إذا عقد مباشرة بين المقاول والمستفيد، أو بين المقاول الأصلي ومقاول من الباطن، أو بين المستفيد ومؤسسة مالية تتعهد بإقامة المنشآت طبقاً للمواصفات والشروط المنصوص عليها في العقد.

فالمقاول إما أن يتعهد بتقديم العمل فقط، ويقدم صاحب العمل المادة المستخدمة أو المستعان بها في القيام بالعمل، وإما أن يتعهد المقاول بتقديم المادة والعمل، أي المادة التي تدخل في تركيب المصنع أو البناء مثلاً، مع القيام بالعمل الفعلي القائم على تقديم الأدوات والمواد الأولية كالإسمنت والحديد وأدوات أو آلات المصنع، وتشغيل العمال وتقديم الأجرة لهم.

وفي الحالتين يجب في عقد المقاولة وصف المحل وبيان النوع والمقدار وطريقة الأداء، ومدة الإنجاز، وتحديد مقدار البدل المدفوع في مقابل هذه الخدمات.

فعقد المقاولة يتم إبرامه في صورتين، إما أن يكون بين المقاول والمستفيد مباشرة وهذه هي الصورة الغالبة في إبرام عقد المقاولة وتنفيذه، حيث يتم الاتفاق مباشرة بين المقاول وبين المستفيد من إنجاز العمل وحينئذ يسهل معرفة بنود الاتفاق، والتزامات المقاول التي ستذكر بعدئذ، وكذلك التزامات صاحب العمل أو المستفيد من العمل بمقتضى عقد المقاولة، وطبقاً للشروط الواردة فيه ولا تثير هذه الصورة غالباً إشكالات تتصادم مع طبيعة عقد المقاولة.

وإما أن يكون عقد المقاولة من الباطن وفيها يتنازل المقاول عن جزء من مهامه إلى مقاول آخر وتقع هذه الصورة في الغالب في مقاولات المباني والإنشاء حيث تتعدد الأعمال وتتشعب، فإذا شرط في العقد أن يقوم به بنفسه أو كانت طبيعة العمل تقتضي ذلك فليس للمقاول أن يكل تنفيذ العمل كله أو بعضه إلى شخص آخر.

وهذا حكم مقرر معروف في عقد الوكالة، وإن لم يكن هناك شرط أو مقتضى طبيعة عمل فللمقاول أن يتفق مع مقاول آخر على تنفيذ العمل كله أو بعضه وتبقى مسؤولية المقاول الأول قائمة قِبل صاحب العمل ولا يجوز للمقاول الثاني أن يطالب صاحب العمل بشيء مما يستحقه المقاول الأول إلا إذا أحاله على رب العمل وتكون هذه المقاولة من الباطن صحيحة وتنفذ في حق رب العمل وتكون العلاقة فيما بين المقاول الأصلي والمقاول من الباطن علاقة رب عمل بمقاول ينظمها عقد المقاولة من الباطن.

ويلاحظ أن مسؤولية المقاول الأصلي عن أعمال المقاول من الباطن هي مسؤولية عقدية، تنشأ من عقد المقاولة الأصلي، وليست مسؤولية متبوع عن تابعه، فالمقاول من الباطن يعمل مستقلاً عن المقاول الأصلي ولا يعتبر تابعاً له وتقوم هذه المسؤولية على افتراض أن كل أعمال المقاول والأصل ألا تقوم علاقة مباشرة بين رب العمل وبين المقاول من الباطن إذ لا يربطهما أي تعاقد، فلا يطالب أيهما الآخر مباشرة بتنفيذ التزاماته، وإنما يكون للمقاول من الباطن طبقاً للقواعد العامة أن يرجع على رب العمل في خصوص البدل أو المقابل المستحق له قبل المقاول الأصلي، بطريق الدعوى غير المباشرة.

والخلاصة: أن القوانين أجازت للمقاول أن يتعاقد مع مقاول من الباطن في كل العمل الموكل له أو في جزء منه ما لم يمنعه من ذلك شرط في العقد أو أن تكون طبيعة العمل تتطلب الاعتماد على الكفاية الشخصية للمقاول، كأن يكون العمل محل المقاولة عملاً فنياً اعتمد فيه صاحب العمل على كفاية المقاول الشخصية في هذا العمل أو ما اشتهر عنه في أدائه، فعندئذ يتحتم أن يوم المقاول بالعمل شخصياً وسوف نتناول في العمود القادم الأحكام الأخرى المتعلقة بعقد المقاولة.