جعفر الديري

يرى الناقد د.عبدالقادر المرزوقي أن النص التاريخي بصنوفه السياسي والديني والتراثي اعتمد في بسطه لمضمونه إلى معايير المتخيل الثقافي في إقناع الناس وكسب تأييدهم، ما يجعل المتخيل أساس محوري لفهم تاريخ وماهية الإنسان، إذ لا يمكن للثقافة أن تستقر في مضامينها الدلالية بمعزل عن المتخيل الثقافي في سمته الفكري.

ويلفت في إطار بحثه عن العلاقة الجدلية بين المعطى التاريخي في علاقته بالمتخيل الثقافي في الثقـافة العـربية، إلى ان النظر فـي النص التاريخي مجردا بأحداثه قد يحيله إلى سياق وصفي وثائقي منبتا عن كينونة التداول التفاعلي.

تبئير الهوية

ويوضح د.المرزوقي: أن الارتباط العضوي بين التاريخي والمتخيل الثقافي يؤسس لتبئير الهوية، فالنص التاريخي مفهـوم تخـابري تحـاوري وفـق مبادئ لغـوية تقـترن بالتعـبير عـن الهـوية، ولا يتحقق ذلك إلا بتفعـيل المتخـيل الثقـافي للكشـف عـن المفـاهيم الـدلالـية فـي نسـقها اللفـظي مـن خـلال معـايير تخيلـية يقتضـيها محـيط النـص التـاريخي، مشيرا إلى ان تعـيين المـرجع التخيلي أمـر ضـروري لاسـتكشاف دلالـة الهـوّية المعـبرة عـن القـيم الفنـية والاخـلاقية والانسـانية فـي سـياق التـداول المعـرفي.

ويضيف: "لعلـنا هـنا نقع في إشكالية فلسفية تنطلـق من أن البحـث في الهـوية يتسـم بالازدواجية في المفهوم، إذ أنـه بحـث في الهـوّية وبحـث عن الهـوّية، وكلاهمـا يختلـف عـن الآخـر في مـوضوعه فـــ " البحـث في الهـوية، بحـث معـرفي، أمـا البحـث عـن الهـوية فبحـث عـن أيـديولوجـي غـالـبا. البحـث فـي الهـوية يبحـث صـنع هـذه الهـوية ومـتابعة لصنعهـا باسـتمرار، أمـا البحـث عـنها، فيعـني أن الهـوية منجـزة ولكنها ضـائعة يجـب البحـث عنهـا لاسـتردادهـا".

إشكالات تاريخية

وحول إشكالات التاريخ، المرتبطة بموضوع الهوية بين المعطى التاريخي والمتخيل الثقافي، يبين د.المرزوقي أن البحـث في التـاريخ العـربي يقـود إلى إشـكالات جمـة تتصل بمـوضوعية الكتابة التـاريخية، فالمـؤرخ ينظـر في تسـجيله للوقـائع التـاريخية إلـى مـا يحـتويه النص التـاريخي مـن عـبر قيمية وما أصبحـت علـيه الأمـور مـن واقـع، والمـؤرخ حـين ينطلـق في توثيقـه لمجـريات التـاريخ لا يسـتطيع التحـرر من اعـتبارات خـارجية تلقـي بظـلالهـا على تعـاملـه مـع تلك المـادة، لتصـبح تلك المـادة حـالة جـامـدة من المـاضي تبـرز الملفـوظ وتسكت عمـا يخـيل فـي ثنـايا الملفـوظ.

ومـن الثـوابت إن الهـوية تظـل حـاضرة في أي منـتج ثقـافي، إذ أنـها تمثـل البنـية التحـتية لأي تفكـير علمـي يؤسـس وعـيا كتـابيا يتسـاوق مـع النسـق العـام، ومـن هـنا يرى د.المرزوقي أن الاخـتلافات الشاسـعة في تفسـير التـاريخ والمعـتقدات والقـيم في الزمـان والمكـان لا تحمـل أي أهمـية في تحـديد مـاهية وطـبيعة الانسـان. بل ان المشـكلة في النظـر إلى التـاريخ نظـرة مجـردة قـد يحيلهـا إلى خلـو من الرابـط المسير لطـبيعة الفهـم التخـيلي لتصـبح مـادة تتسـم بالانفصـام عـن الواقـع المحـيط بهـا.

نهج وظيفي

وفـي هـذا السـياق المعـرفي يتساءل د.المرزوقي: هـل التـاريخ صـانع المتخـيل الثقـافي أم المتخيـل الثقـافي صـانع التـاريخ؟ وهـل هـذا التعـالق بين المعطـى التـاريخي والمتخـيل الثقـافي يحدد مفهـوم الهـوّية ؟.

ويجيب: "لعل الإجـابة علـى هـذا المشـكل المعـرفـي يسـتلزم تفكـيك بنيـة الخطـاب التـاريخي والكشـف عـن مقـاصده سـواء الـدينية أو السـياسـية أو الاجـتماعية".

إن تفكيـك الخطـاب التـاريخي يقتضـي الكشـف عـن الحـدود الفـاصلة بـين المتخـيل والتـاريخي وبيـان السـبل الـتي أتكـأ عليهـا الفكـر البشـري فـي إزاحـته لتلك الفـواصل الـتي أدت بالمـؤرخ إلـى إعـادة انـتاج الحـوادث التـاريخية وفـق رؤيـة خـاصة نـابعـة مـن مرجـعية المـؤرخ، ومـن هـنا تـبرز أهـمية تسـليط الضـوء علـى النهـج الوظـيفي للهوية بين المعطـى التـاريخي والمتخـيل الثقـافي في بيـان المتنـاقضات الـتي قـد تطـرأ علـى بنيـة الخطـاب الملـفوظ لوقـائع الاحـداث والمضمـون الـدلالـي لتلك الأحـداث.

ويواصل القول: "إن عـلاقة التـاريخ بكل صـنوفه الدينية والتراثية والابداعية بالهـوية الثقـافية عـلاقة قـديمة لمـا تمثلـه من جـدلية تواصلـية بين المـبدع وفكـرة التـوثيق والتدويـن التـاريخي لتلك الأحـداث، الأمـر الـذي يجعل المـبدع في حـالة التباس بين نقل الأحـداث بصفته شـاهـدا عليها أو مشـاركا فيهـا برؤيـته ضـافيا عليها توجهه الإنسـاني والفكـري. والبحـث في الهوية يشـوبه التعـقيد وذلك لتقـاطع الكثير مـن تخصصـات العلـوم الانسـانية فيـه كعلـم الاجـتماع، وعلـم النفـس، والانثروبولوجيـا والسـياسة والأدب والفلسفة، ممـا يجعلـه موسـوما بعـدم الحيـاد، وذلك لسـيطرة الـذاتية وشـغلها مسـاحة هـامة في تحـديد مسـار الهويـة.

الحاضر والمستقبل

ويخلص المرزوقي في بحثه إلى أن جـوهـر تشـكل الهـوية يقـوم على انفتـاحها علـى فضـاء معطـيات الحاضر والمستقبل، علـى قيمتها المعـرفية الواعـية في خلـق قنـوات التواصـل بين التـاريخ والحـاضر وبيان قـدرتها المؤثـرة علـى فهـم النص التـاريخي برؤيـة دينـاميكية متجـددة.

وممـا يـؤيد أهمـية التثـبت مـن الانشـطار المفـاهيمي للتخـيل الثقـافي هـو ربـط ما ينطـوي علـيه داخـل التـاريخ بحـركة الـواقع فـي تـوطـيده لحـدود هـوية فضـاء النص، إذ يتحـول اخـتلافها الـدال مـن الخـارج المحـدود إلى داخـلهـا الـذي لا نهـاية لـه.