أ. د. عبد الفتاح يوسف
ارتبط مفهوم العنف الرمزي بطروحات السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو، وعرفه بأنه عنف لطيف وغير محسوس، وغير مرئي بالنسبة لممارسيه وضحاياه في الوقت نفسه، وأكد أن ممارسات العنف الرمزي يمكن تمريرها إلى الضحايا عبر وسائل نوعية مثل: تلقين المعرفة، والتواصل، وأشكال الإقناع الصامت.
مفهوم متعدد المجالات
الغريب حقا هو تعدد المجالات التي يشتغل فيها هذا النوع من العنف، ولعل من أهمها وأخطرها على الإطلاق: الأسرة، والمدرسة، والإعلام. فأكثر أشكال العنف الرمزي يتم التأسيس لها في هذه المؤسسات. فنسق الثأر مثلا يبدأ بإقناع الأهل للطفل منذ الصغر بعدد من الملفوظات الإقناعية بأهمية هذا العمل في حياة الإنسان؛ ليعيش مرفوع الرأس وسط قومه!. وأفضلية الذكر على الأنثى يتم التأسيس لها داخل الأسرة، دون وعي العائلة بخطورتها في التأسيس للعنف المادي، الذي هو تطور طبيعي للعنف الرمزي.
المؤلم حقا في هذا النوع من العنف أن الضحايا يتواطؤون مع من يمارس العنف عليهم، فيخضعون أنفسهم للأنساق الثقافية والحتميات الاجتماعية ويعملون على تكريسها في أنظمة حياتهم. فالمجتمع الذكوري، يطبع علاقة الرجل بالمرأة بطابع نسقي خاص يفرض السيطرة والهيمنة على المرأة؛ وذلك عبر عملية سجالية ثقافية تكشف عن آليات تسلل الفكر الذكوري إلى وعي الضحية عبر الخطاب اليومي؛ ومن ثمة تتعمق الدلالات في وعيها، فترضخ لها حينا، ثم تبدأ رحلة التعايش معها في مرحلة ثانية، وأخيرا تدافع عنها في مرحلة ثالثة، مثلما تدافع الزوجة في الثقافة العربية عن زوجها الخائن!.
لغوي وفكري بامتياز
العنف الرمزي، هو عنف لغوي وفكري بامتياز؛ حيث يتوسل الفاعل الاجتماعي باللغة أو بالمعهود الثقافي بوصفهما أدوات فاعلة للهيمنة على الضحايا؛ ولذا يعتمد العُنف الرمزي قوة اللغة وفاعلية المعهود الثقافي في إخضاع الضحايا لإملاءاته؛ حيث تستثمر السلطة التي تمارس العنف البديهيات والمسلمات والمقولات الجاهزة التي تعتقد فيها الضحية؛ لممارسة العنف عليها، وهو عنف أكثر تعقيدا من العنف المادي أو الفيزيائي. ويعرفه معجم كمبريدج بأنه " شكل من أشكال التعبير الإنساني، وهو أكثر تطرفا، ورغم ذلك يظل وسيلة تعبيرية توظف فيها القوة بوصفها ملكة بشرية بطريقة تعسفية من قبل فاعل اجتماعي، وقد يتمثل الضرر في ممارسات الإقصاء والتهميش".
تكمن إشكالية العنف الرمزي، أو فعل العنف اللغوي في أنه لا يخضع لقوانين مدنية، وإنما يخضع لرغبات الإنسان، وأنساق الثقافة، والطقوس، والعادات والتقاليد، والقوى الإيديولوجية؛ حيث يتسلل إلى الواقع الحياتي في صورة ممارسات تتستر خلف قيم وأخلاق زائفة، ويمارس فاعليته في التدمير من خلال هذا القناع الأخلاقي.
إن ارتباط هذا العنف الرمزي بالنسق الإيديولوجي، يمنحه القدرة على مطاردة كل أشكال التحضر والارتقاء على المستوى الإنساني، فهو عنف يجعل الضحية أسيرة الاستلاب الإنساني، إنه عنف يقضي على آمال الإنسان في التحرر؛ لأنه يعمل من أجل مصلحته الخاصة في تقييد الحريات، والقضاء على دعوات التجانس والتآلف، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور قوى اجتماعية غير متجانسة؛ ومن ثمة تقنين التوحش والفرقة، لأن السلطة تعمل فقط لمصلحتها، دون الوعي بأنها تعمل ضد نفسها؛ لأنها في الوقت الذي تعلي فيه من شأنها، تحط كثيرا من شأن ضحاياها الذين يتسلحون بوعيهم الفردي، ويتحصنون في الخطاب انتظارا للتخلص منه.
يرتبط بالإيذاء المعنوي
يرتبط العنف الرمزي بالإيذاء المعنوي الذي تمارسه السلطة الرمزية على ضحاياها من المارقين! وهي سلطة غير مرئية. تمارس فاعليتها بالاحتواء والنفي في آن واحد؛ حيث تحتوي السلطة ضحاياها لإخضاعهم لمنطقها، والنفي عندما تفكر الضحية في شق مسار آخر غير المسار الذي حددته لها السلطة. في هذا السياق السجالي بين الطرفين، يتشكل المجال الدلالي لحقل العنف الرمزي؛ حيث يمارس فاعليته في الخطاب بوصفه سلطة مضافة تنتصر لمرجعيات السلطة الأقوى لجلد ضحاياها المارقين. يكشف هذا العنف عن أن كل اختراق للإيديولوجيا السائدة، يعد تمردا يقتضي الكبح؛ وذلك للمحافظة على استمراريتها.
لعل أكثر ما يتوسل به مفهوم العنف الرمزي في مجتمعاتنا، دعوات المحافظة على ثوابت الثقافة، والتمسك بالتقاليد، وهي دعوات تحول دائما بين الوعي الفردي وتطلعاته الحضارية ورؤاه الفكرية. وبناء على هذه الدعوات تبني السلطة الثقافية خطابها المشرع للعنف الرمزي، الذي يعتد دائما بالمحافظة على الثوابت والتقاليد. وعلى هذا تعتمد السلطة آليتين مهمتين تحفظ لها تواجدها واستمراريتها: تتمثل الآلية الأولى في خطاب يمرر العنف؛ لما يملكه الخطاب من سلطة في تحويل دلالات المفاهيم بما يخدم هذه السلطة، بحيث تجري هذه المعاني في كل تفاصيل الحياة. أما الآلية الثانية، فتتمثل في ممارسات العنف من قبل الأفراد الذين ينتمون إلى السلطة ( حراس السلطة ) وهي ممارسات قهرية تلزم الضحايا باتباع التعاليم، وإرهابية تجعل كل من يحاول الخروج عليها مارقا، أو متمردا. ولعل انتشار مفاهيم الزندقة، والكفر، والإلحاد، والعلماني، لا تخلو دلالاتها من معاني القهر والإرهاب الرمزي؛ لمواجهة كل من يخرج على تقاليد المؤسسة الثقافية، التي تمتلك السلطة في كل المراحل التاريخية؛ حيث تسمح لكل مفهوم من هذه المفاهيم بالظهور والانتشار لخدمتها.
فإذا كان من شأن الإيديولوجيا أن تقهر، فإن من شأن الضحايا الإفلات من وطأة هذا القهر والخنوع، والكتابة هي أسمى علامات التحرر؛ لأن الوعي الفردي هو الذي يمارس حريته في السجال، والشك، والنقد، ومقاومة الإكراهات؛ ومن ثمة إفشال رهانات الإيديولوجيا، أو التقليل من أهميتها. وهذا يتطلب منا دراسة هذه العلاقة المعقدة بين السلطات الإيديولوجية وضحاياها.