تطرقنا في عمودنا السابق إلى ايجابيات العقوبات البديلة على المتهم والمجتمع وسوف نتناول في هذا العمود لمحة تاريخية للسجون في الإسلام ونظرية السجن الإصلاحي فيه .
فالإسلام يعد المنبع الرئيس لكل النظريات التي تهدف إلى حفظ حقوق وحريات الإنسان وصيانة كرامته وإن كان مجرماً، لذلك اهتم الفقه الإسلامي بالسجن والسجين، غير أن هذا الاهتمام لم يأتِ دفعة واحدة فلفظ السجن كمؤسسة عقابية وكعقوبة وردت في القرآن الكريم في سورة يوسف في ثمانية مواضع، والسجن كعقوبة وإن عرف في زمان الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير أنه لم يكن هناك مكان يحبس فيه الشخص المجرم، فكان الحبس يتم إما بساحة المسجد النبوي أو في الدهاليز أو في البيوت ومنها بيت المضرور، وظل عدم وجود مكان معين مخصص يحبس فيه الأشخاص حتى عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحينما تولى الإمام علي رضي الله عنه الخلافة اهتم بالسجن فبنى سجناً في الكوفة سماه (نافع )، ثم بنى سجناً وسماه (مخيس) وقد تميز هذان السجنان بالنزعة الإصلاحية .
وقد عمد الإمام علي كرم الله وجهه إلى وضع قواعد خاصة في معاملة المسجونين ترمي إلى الحفاظ على كرامة الإنسان فنجد أن هناك عناية بالسجين من نواحي الجسد والروح والفكر، فكان الإمام علي يتابع طعامهم وشرابهم وكان يصرف لهم كسوة صيفية وأخرى شتوية وفي حال مرض أحد السجناء كان يعالج داخل المؤسسة العقابية ، وإن كان مرضه لا يرجى شفاؤه أو خطراً على حياته ينقل إلى بيته لعلاجه ومن ثم يصدر قراراً بإعفائه عن مدة محكوميته، وكان يسمح للمسجونين بالخروج والمشي داخل المؤسسة العقابية، بل نجد أن الإمام قد أقر للسجناء بحق الخروج لأداء صلاة الجمعة والعيدين مع ذويهم وأهلهم وإعطائهم الحق بزيارتهم كما أقر تعليم السجناء القراءة والكتابة والأحكام الدينية والعقائدية والمواظبة على ممارستها، ثم أكد على ضرورة معاملة السجناء بالحسنى من قبل القائمين على إدارة المؤسسة العقابية وذلك كله يتم تحت إشرافه ورقابته، وأصبح هذا الفكر الإصلاحي نقطة الانطلاق فيما بعد للفكر الجنائي الإسلامي والإنساني عموماً في الاهتمام بالسجن والسجين وعلى ذلك يمكن القول إن الإسلام وضع قواعد الحد الأعلى لمعاملة المسجونين وتنظيم السجون وقد استفاد الفكر الإنساني من تلك النظريات والممارسات التي كان رائدها صاحب الفكر الإنساني والقانوني العظيم الإمام علي بن أبي طالب ولكن بعد مرور مئات السنين لم يتم الاهتمام بالسجون كمؤسسة إصلاحية علاجية وتأهيلية بصورة فعلية إلا بعد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين
إن عقوبة السجن في الإسلام ليست أساسية فكونها عقوبة اختيارية لا يلجأ إليها القاضي إلا في بعض الأوقات وينتقل إلى غيرها إذا رأى عقوبة أجدى منها حسب الحالة الموجودة أمامه ويتم استخدام عقوبة السجن لحالات محدودة منها سجن تحفظ كحبس غريم إلى أن تثبت عدالة الشهود أو لاستكمال الشهادة أو سجن القاتل إلى أن يكبر ولي الدم إن كان صغيراً أو يقدم من السفر إن كان مسافراً لأن إطلاق سراحه في هذه المدة فيه فوات الحق إذ لا يؤمن هروبه، وسجن الإكراه مثل حبس المدين بطلب من الغرماء إذا حلت ديونهم الثابتة في ذمته وامتنع عن أدائها من غير إعسار لأنه قادر وإلا فلا يجوز حبسه عملاً بقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) وسجن استتابة كسجن الكاهن والعراف لعلهما يرجعان عن أفعالهما .