عادة ما يتردد على أسماعنا كثيراً موضوع التنشئة الاجتماعية وما يندرج تحتها من أنواع العديد من التنشئة، فهناك التنشئة السياسية، والتنشئة الثقافية، والتنشئة الرياضية... إلخ، ولكل موضوع من هذه الموضوعات مؤسساته التي تقوم بدعمه ومساعدته في تعزيز حالة أو اتجاه معين داخل المجتمع، وبما أننا معنيون في المقام الأول بالتنشئة بمعناها الديمقراطي، فسوف نتطرق في هذا المقال إلى التنشئة السياسية الديمقراطية، والتي تعرف باعتبارها تنمية لمعايير وقيم محددة من قبل النظام السياسي في عقول مواطنيه، وذلك باستخدام وسائل مختلفة؛ وهذه الوسائل يلجأ إليها المواطن طوال فترة حياته وتعمل على ترسيخ تلك القيم والمعايير حتى يتقبل عمل النظام من جهة، ويستمر النظام بالبقاء والاستمرار من جهة أخرى. وقد تعددت وسائل أي نظام في عملية التنشئة عموماً والديمقراطية منها خصوصاً.

وتقف الأسرة باعتبارها المؤسسة الأولى في عملية التنشئة نتيجة لكونها هي المؤسسة التي ينشأ فيها الفرد وينمو في مراحله العمرية الأولى. أما المؤسسة الثانية فهي المدرسة بما عليها من دور محوري يتم استخدامه من خلال ثلاث آليات محددة، الأولى هي المنهج الدراسي بما يحتويه من قيم وأفكار معينة، والآلية الثانية هي المدرس بما يحمله من سلوكيات وعادات وأساليب تأثر فيها ببيئته المحيطة، أما الآلية الثالثة فهي المدرسة نفسها بما تقوم به من طقوس وعادات معينة تغرسها في شخصية الفرد في مراحل تنشئته الأساسية. أما ثالث الوسائل التي تلعب دوراً هاماً في عملية التنشئة السياسية، فهي المؤسسة الدينية، وهي تشمل كل ما يتعلق بمؤسسات تعليم الدين والتربية عليه سواء كانت مسجداً أو كنيسة أو معبداً لأي ديانة أو طائفة. ترى في أفكارها وسيلة للتقرب للإله لدخول الجنة وتجنب الوقوع في براثن الشر وما يستتبعه من مصائر سلبية. ويأتي الإعلام كوسيلة رابعه وهو يحتوي على كل آليات الإعلام الحديث منها والتقليدي الإلكتروني منها والبدائي، الجماعي فيها والفردي، وهي كلها آليات تبلور دوراً معيناً للإعلام في عملية التنشئة السياسية.

وأخيراً وليس آخراً يأتي المجتمع المدني، حيث تعد مؤسساته هي المستويات الأولية لتعلم الديمقراطية والتنشئة عليها، فتصقل المواطن بالأسلوب الديمقراطي عند إبداء الرأي والتدريب على أساليب التفاوض الجماعي وتأكيد أهمية التراضي كآلية للوصول إلى حلول وسط في حالة اختلاف الرأي أو المصالح مع التركيز على قيم المشاركة في الحياة العامة والتكافل الاجتماعي.

ويعرف المجتمع المدني بأنه شبكة التنظيمات التطوعية التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وتعمل على تحقيق المصالح المادية والمعنوية لأعضائها، والدفاع عن هذه المصالح وذلك في إطار الالتزام بقيم ومعايير الاحترام والتسامح السياسي والفكري والقبول بالتعددية والاختلاف، والإدارة السلمية للاختلافات والصراعات، والاحترام لحقوق الإنسان سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية. وفي ذلك يقوم المجتمع المدني على ثلاثة أركان رئيسة هي:

الركن الأول: الفعل الإرادي الحر

فالمجتمع المدني يتكون بالإرادة الحرة لأفراده، ولذلك فهو غير جماعات الأهل والأقارب مثل الأسرة والعشيرة والقبيلة ففي الجماعة العائلية لا دخل للفرد في اختيار عضويتها فهي مفروضة عليه بحكم المولد أو الإرث. كما أن المجتمع المدني غير الدولة التي تفرض جنسيتها أو سيادتها أو قوانينها على من يولدون أو يعيشون على إقليمها الجغرافي دون قبول مسبق منهم. وينضم الناس إلى تنظيمات المجتمع المدني من أجل تحقيق مصلحة أو الدفاع عن مصلحة مادية أو معنوية.

الركن الثاني: هو التنظيم الجماعي

فالمجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات كل تنظيم فيها يضم أفراداً أو أعضاء اختاروا عضويته بمحض إرادتهم الحرة ولكن بشروط يتم التراضي بشأنها أو قبولها ممن يؤسسون التنظيم أو ينضمون إليه فيما بعد، وقد تتغير شروط العضوية وحقوقها وواجباتها فيما بعد، ولكن يبقى أن هناك تنظيماً وهذا التنظيم الرسمي أو شبه الرسمي هو الذي يميز المجتمع المدني عن المجتمع عموماً. فالمجتمع المدني هو الأجزاء المنظمة من المجتمع العام. فهو مجتمع العضويات، فبقدر ما يحمل أي مواطن من بطاقات عضوية بقدر ما يكون عضواً نشطاً في مجتمعه المدني والذي لا بطاقات عضوية لهم في منظمات المجتمع المدني فإنهم يصدق عليهم وصف المهمشين أو المستضعفين في أي مجتمع معاصر.

الركن الثالث: الركن الأخلاقي السلوكي

وينطوي على قبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخرين وعلى حق الآخرين في أن يكونوا منظمات مجتمع مدني تحقق وتحمي وتدافع عن مصالحهم المادية والمعنوية، والالتزام في إدارة الخلاف داخل وبين منظمات المجتمع المدني بعضها البعض وبينها وبين الدولة بالوسائل السلمية المتحضرة، أي بقيم المجتمع المدني وضوابطه المعيارية وهو قيم التسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي.

وهنا ينبغي لنا قبل البحث في العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية أن نتطرق للمقصود بالديمقراطية والتي لا يوجد لها تعريف جامع مانع لها حتى الآن، ولا شكل تطبيقي واحد صالح لكل زمان ومكان وربما لن يوجد مثل هذا التعريف أو الشكل الثابت، طالما استمر وجود الأمم والشعوب والمجتمعات والدول المتعددة المرجعيات الثقافية والتاريخ الاجتماعي. إلا أنه من الأهمية التأكيد أن عدم وجود تعريف جامع مانع للديمقراطية، لا يعني أن الديمقراطية شيء هلامي غامض غير محدد المعالم والصفات. فالديمقراطية لها ثوابت تتجلى اليوم في مبادئ ومؤسسات وآليات وضمانات الدستور الديمقراطي. فللديمقراطية قيم تتمثل في الحرية والمساواة والعدل والتسامح، وتفترض ضرورة قبول الآخر والتعامل معه على قدم المساواة. وهنا مربط الفرس في العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية، فالعلاقة وثيقة بينهما، وخاصة في ركنها الثالث الخاص بحق الاختلاف في الآراء وفي المصالح المادية والمعنوية فهذا الركن هو جوهر الديمقراطية. فالديمقراطية تعتبر هي الجانب السياسي للمجتمع المدني فهي صيغة سلمية لإدارة الاختلاف والتنافس والصراع طبقاً لقواعد متفق عليها من كل الأطراف. وبذلك الشكل تعتبر منظمات المجتمع المدني هي مدارس للتنشئة السياسية على الديمقراطية حيث تدرب أعضاءها على المهارات اللازمة للديمقراطية في المجتمع الأكبر من خلال الالتزام بشروط العضوية وحقوقها وواجباتها والمشاركة في النشاط العام والتعبير عن الرأي والاستماع إلى الرأي الآخر وعضوية اللجان والتصويت على القرارات والمشاركة في الانتخابات وقبول النتائج سواء كانت على هوى العضو أو لم تكن. كما أنها تعتبر جماعات مصالح تنمي وتدافع عن هذه المصالح في مواجهة المنافسين والخصوم من جماعات المجتمع المدني الأخرى ملتزمة بالإدارة السلمية للاختلاف.

ويبقى السؤال، لماذا المجتمع المدني ضروري للديمقراطية، وهل وجود مجتمع مدني قوي يؤدي إلى ديمقراطية سليمة، أم العكس أي وجود ديمقراطية حقيقية تؤدي إلى وجود مجتمع مدني قوي؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في المقالة القادمة.