استعرضنا في المقال السابق العلاقة بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي وكيف إن العلاقة بينهما علاقة قوية ومستدامة فلا يستطيع المجتمع المدني أن ينمو بمعزل عن مناخ ديمقراطي حقيقي ولا يمكن للديمقراطية أن تتحول إلى ثقافة مجتمعية دون وجود مجتمع مدني فاعل.
في هذا المقال سنحاول الاقتراب من منظمات المجتمع المدني في مملكة البحرين، وهي تمتد لتشمل كل ما هو غير حكومي سواء تمثل في جمعيات أهلية أو نوادٍ اجتماعية أو رياضية أو نقابات مهنية أو عمالية، وهناك من المدارس الاجتماعية ما تضم الجمعيات أو الأحزاب السياسية إلى منظمات المجتمع المدني إلا إن الكاتب ليس من هذه المدرسة؛ حيث يميل إلى اعتبار الجمعيات السياسية منظمات غير حكومية مؤقته ينتهي هذا التأقيت بوصولها للسلطة وتحولها إلى مؤسسة رسمية حاكمة، وهو ما لا يستوي مع الطبيعة الدائمة التي يجب أن تكون عليها منظمات المجتمع المدني.
كما إنه ولأغراض التحليل اضطر الكاتب إلى استثناء النوادي الاجتماعية - الرياضية لاختلاف دورها من الناحية القانونية والفعلية عن الجمعيات الأهلية ورغبة في مزيد من توحيد المعايير المستخدمة في التحليل.
بداية ترجع نشأة الجمعيات الأهلية في مملكة البحرين إلى فترة ما قبل تأسيس الدولة ذاتها؛ حيث بدأت في شكل نوادي رياضية وثقافية؛ ففي عام 1919 تأسس أول نادٍ أدبي، وفي عام1937 تم تأسيس نادي البحرين، وقد أقام فعاليات حول أوضاع المرأة والعمالة الأجنبية والتطورات الاقتصادية، ثم في 1939 تم تأسيس نادي العروبة. وفي عام 1941 شهدت البحرين تأسيس أول منظمة أهلية في الخليج العربي عندما تأسست أول جمعية خيرية إسلامية هي جمعية الإصلاح التي أُسست على أنها جمعية اجتماعية خيرية دينية تحت مسمى "نادى الطلبة" ويقصد بالطلبة هنا الطلبة العائدين من دراستهم في جمهورية مصر العربية وتغير اسمها في عام 1948 ليكون "نادي الإصلاح". وفي عام 1953 تم تأسيس أول جمعية نسائية في منطقة الخليج العربي عندما تأسست جمعية نهضة فتاة البحرين.
إلا أن العمل الأهلي المنظم لم يبدأ إلا في فترة نهاية الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين؛ حين تم إصدار قانون لترخيص الجمعيات والنوادي عام 1959؛ والذي نشأ تحت مظلته مجموعة جديدة من المنظمات الأهلية وصلت في عام 1979 إلى خمس جمعيات نسائية وتسع جمعيات اجتماعية. في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين شهدت البحرين صدور قانون جديد لتنظيم العمل الأهلي ليحل محل قانون التراخيص للجمعيات والنوادي؛ حيث صدر في عام 1989 قانون رقم 21 المتعلق بالجمعيات والأندية الاجتماعية والثقافية والهيئات الخاصة العاملة في ميدان الشباب والرياضة والمؤسسات الخاصة الاهلية، والذي عرّف الجمعيات الأهلية بأنها: "كل جماعة ذات تنظيم مستمر وتتألف من عدة اشخاص طبيعيين أو اعتباريين لغرض آخر غير الحصول على ربح مادي وتستهدف القيام بنشاط تعليمي أو اجتماعي خاص أو ثقافي أو خيري".
ومع تولي جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حكم البلاد عام 1999 شهدت البحرين طفرة إصلاحية على كافة المستويات ومن بينها كانت الجمعيات الأهلية فمنذ بداية عام 2000 شهدت الجمعيات الأهلية تناميا واضحا في أعداد الجمعيات الأهلية حيث ارتفع عدد المنظمات الأهلية في البحرين من 100 منظمة فقط عام 1999 إلى أكثر من 200 منظمة عام 2007، أما في 2011؛ فقد وصل عدد المنظمات الأهلية المشهرة والفاعلة إلى حوالي 484 منظمة وفي مايو 2019 أصبح هذا العدد 566 جمعية أهلية من نسائية واجتماعية وشبابية وإسلامية وخيرية ومهنية وجمعيات الفئات الخاصة بالإضافة إلى الجمعيات الخليجية والاجنبية، وذلك بعد استثناء الكنائس باعتبارها مؤسسات دينية تخرج من إطار المنظمات الأهلية والنوادي الاجتماعية - الرياضية.
وقد تركزت أنشطة تلك الجمعيات على مجموعة من المحاور كان أهمها هو تمكين الفئات المستهدفة من توسيع مشاركتها العامة بشكل تطوعي سواء كانت تلك المشاركة اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية ولقد كان تفاعل هذه الجمعيات مع محيطها المجتمعي هو العامل الأهم في إكساب هذه المنظمات مصداقيتها وفعاليتها فكلما اتجهت هذه المنظمات إلى تلبية الاحتياجات الأولية لمجتمعاتها كلما اثبتت جدواها وضرورة وجودها خاصة ان هذه الجمعيات من المفترض أن تقوم بدور الوسيط بين المواطن والدولة. ولكن هل استطاعت بالفعل ان تقوم بدورها ذلك؟
بتقريب الصورة أكثر فإننا نستطيع القول أن مملكة البحرين من الدول متوسطة العدد من حيث كثافة عدد الجمعيات الأهلية فهناك جمعية أهلية لكل 1175 مواطنا بحرينيا وذلك طبقا لآخر إحصائيات سكانية صدرت عام 2016، وهو عدد متوسط إذا قورن بفرنسا حيث جمعية أهلية لكل 30 مواطنا وجمعية لكل 137 مواطنا في الولايات المتحدة وجمعية لكل 1000 مواطن في أمريكا اللاتينية.
إلا أن الأمر يكون أفضل حالاً إذا قورنت عدد الجمعيات الأهلية المعنية بالشباب بإجمالي عدد الشباب البحريني حيث هناك 27 ألف نسمة من الشباب الذي تتراوح اعمارهم بين 15 إلى 29 عاما بإجمالي عدد جمعيات شبابية بلغ 30 جمعية أي أن المعدل هو جمعية شبابية لكل 900 من الشباب لكن الأمر يصبح مختلفا إذا كانت الجمعيات معنية بالمرأة حيث اجمالي عدد النساء البحرينيات بلغ حوالي 328 ألف امرأة بمعدل جمعية نسائية لكل 15 ألف امرأة وهو عدد محدود الى حد كبير.
ومن حيث اختصاصات تلك الجمعيات فنلاحظ أن أغلبية الجمعيات الأهلية العاملة في مملكة البحرين هي إما جمعيات اجتماعية (20%) أو خيرية (18%) أو مهنية (17%) وذلك بترتيب نسبتها الى اجمالي عدد الجمعيات الاهلية في المملكة. من ناحية أخرى فإن عدد الجمعيات الأهلية الحقوقية (1.6% من إجمالي الجمعيات) وجمعيات المرأة (3.9%) وجمعيات الفئات الخاصة – أصحاب الهمم وكبار السن (3.9%) هي من أقل الجمعيات كماً في المملكة.
ومن حيث التوزيع الجغرافي فنلاحظ أن العاصمة كان لها النصيب الأكبر بالمقارنة بباقي المحافظات حيث استحوذت وحدها على حوالي 31% من إجمالي الجمعيات الأهلية توزعت معظمها بين الجمعيات المهنية والجمعيات الأجنبية والجاليات والجمعيات الاجتماعية وذلك بمعدل جمعية لكل 984 مواطنا وهو المعدل الأفضل على مستوى المملكة إلا أنه ليس كذلك على مستوى دول العالم حيث يتراجع إلى مستوى المتوسط واللافت للانتباه أن معظم جمعيات الجاليات وجمعيات الصداقة بين الشعوب توجد في العاصمة فمن اجمالي 78 جمعية من هذا النوع توجد في مملكة البحرين هناك 36 جمعية فقط في العاصمة بنسبة 46% من اجمالي الجمعيات الأجنبية وان كان لذلك من تفسير فهو يرجع لارتفاع نسبة الأجانب في العاصمة بالمقارنة بإجمالي سكانها حيث بلغت النسبة حوالي 69% وهي النسبة الأكبر على مستوى المملكة . وهي أيضا النسبة الأكبر من الأجانب على مستوى المملكة عموماً.
في حين كانت المحافظة الجنوبية هي الأقل بنسبة 7% توزعت بين الجمعيات الخيرية والفئات الخاصة والجمعيات الاجتماعية بمعدل جمعية لكل 3133 مواطنا. وكانت المحافظة الشمالية (13%) في المرتبة الثانية وتوزعت بين الجمعيات الخيرية والاجتماعية والشبابية بمعدل جمعية لكل 3216 مواطنا وهو المعدل الأضعف على مستوى المملكة. أما محافظة المحرق (10%) فقد جاءت في المرتبة الثالثة وتوزعت جمعياتها ما بين الجمعيات الاجتماعية والخيرية والإسلامية بمعدل جمعية لكل 2199 مواطنا.
إلا أنه ما يدفع الى التساؤل حول فعالية نشاط تلك الجمعيات في الدولة أن نسبة الجمعيات الاهلية مجهولة المقر أو التي لا يوجد لها مقر أصلا طبقا لبيانات وزارة التنمية الاجتماعية حوالي 40 % من إجمالي عدد الجمعيات الأهلية أي انه من بين 566 جمعية أهلية يوجد 221 جمعية بلا مقر او عنوان ومعظم هذه الجمعيات المجهولة العنوان هي إما جمعيات اجتماعية أو شبابية او جمعيات أجنبية أو للجاليات الأجنبية أو جمعيات مهنية في حين أن أكثر الجمعيات التزاماً بوجود مقر أو عنوان رسمي لها هي الجمعيات الإسلامية والخيرية والحقوقية.
وهكذا وبعد استعراض خريطة الجمعيات الاهلية في مملكة البحرين من حيث التطور التاريخي والتخصص والتوزيع الجغرافي نستطيع القول إن هناك العديد من الملاحظات ينبغي وضعها في الاعتبار أهمها أن تلك المنظمات لم تحقق انتشارية متوازنة سواء بين المحافظات الأربع أو بين تخصصات تلك الجمعيات المختلفة ولكن هل أثرت تلك الانتشارية غير المتوازنة جغرافيا ونوعيا للجمعيات على عملية المشاركة السياسية تحديدا في مملكة البحرين وفي القلب منها المشاركة الانتخابية؟ وفي أي اتجاه كان ذلك التأثير؟ وما دلالة ذلك؟ تلك الأسئلة وغيرها ستكون غجاباتها محور المقالة القادمة.