جعفر حسن

في المعابد التي شيدت في عصر رمسيس الثاني، شاهدت شجرة الحياة مرسومة على جدار، ورسل رمسيس الثاني تمحو الأسماء وتكتب اسمه على الأوراق، فكل ورقة تسقط تمثل حياة انقضت، فلو سقطت ورقة عليها اسمه ستبقى حياته في أوراق آخر. وهي في الميثولوجيا وسيلة لخداع الموت.

يتضح لنا أن التفكير في الموت يذهب إلى جهة مظلمة تجلب الكثير من الأسى الفردي، فالإنسان لا يمكن أن يجرب موته. إن الموت يميت كل التجارب مع انهيار كل الوظائف التي تحافظ على الحياة، ولكن الإنسان يجرب موت من حوله من الناس والكائنات. ويبدو أن الموت قد شغل الكثير من الحضارات حتى قبل ظهور التفكير الفلسفي وبعده أيضا، كل ذلك التفكير كان من أجل درء الموت والابتعاد عنه بصور شتى.

صخرة سيزيف

الحضارة اليونانية القديمة أبرزت شخصية سيزيف على أنها تلك الشخصية التي استطاعت خداع إله الموت اليوناني (ثاناتوس) باعتبار أن سيزيف أكثر الشخصيات قدرة على الخداع بسبب قدراته الهائلة على المكر، ما أغضب الآلهة اليونانية، فاختارت له عذاباً عظيماً أبدياً بصخرة يرفعها إلى أعلى الجبل، وفي تلك اللحظة التي يصل إلى قمة الجبل ينهار وتتدحرج الصخرة إلى الوادي، ليعود فيرفعها من جديد في دائرة من العذاب لا تنتهي. ولم تشر القصة اليونانية إلى ذلك العذاب هل هو بعد موت سيزيف أم في حياته التي حافظ عليها عبر خداعه للموت.

والحضارة الإغريقية ليست الوحيدة التي أنتجت فكرة خداع الموت. ولعلنا نلمس في أساطير الشرق بعض الكائنات التي خدعت الموت عن طريق التجدد، وليس طائر العنقاء سوى ذلك الطائر الذي يعيش في جزيرة العرب ثم يهاجر بعد أن يعيش ألف سنة إلى طرابلس ليبني عشه على ثلاث نخلات، ثم يرف بجناحيه حتى يوقظ شرارة ما تلبث أن تلتهم العش بنار عظيمة وهو معه، ومن رماد ذلك العش ينبعث العنقاء من جيد ليعيد الكرة إلى أبد الآبدين.

وليس ببعيد أسطورة جلجامش عن البحث عما يخدع الموت بالتجدد، حين هاجر من بلاده بحثا عن نبتة الخلود التي تزهر في أعماق الأرض، لكنه رجع خائبا بعد أن أخرج الزهرة من أعماق الخليج، ونزل البحر ليستحم، فقامت الأفعى بأكل تلك الزهرة وطرحت جلدها دلالة على التجدد الدائم والشباب المستمر.

الخضر وعين الحياة

كما كانت فكرة عين الحياة التي بحث عنها الخضر مع ذي القرنين، والذي فاز بها الخضر ليخدع الموت ويفوز بالحياة الأبدية، بعد أن شرب من عين الحياة ، تلك العين التي يتدفق ماؤها صاعدا إلى السماء عكس كل العيون الجارية. كما فاز بها عيسى بعد قيامته، كما يفوز بها كل الموتى الذين يمرون بالقيامة سواء كانوا من الصالحين أو من الطالحين.

لم تمر فكرة خداع الموت عبر التاريخ دون أن تلامس الإنسان العربي في شتى شؤون حياته، فنجد أن الشعر العربي قد خلد فكرة خداع الموت عبر التمائم والرقى وغيرها تلك التي يلبسها الإنسان أو تتلى عليه من أجل أن تحميه من الموت المحدق. ويسجل لنا الشاعر أبو ذؤيب الهذلي ذلك الإخفاق الذي يواجه بقدرية عميقة حين يقول: "وإذا المنية أنشبت أظفارها / ألفيت كل تميمة لا تنفع".

ولقد شاعت تلك التمائم والرقى منذ العصر ما قبل الإسلامي حتى وقتنا الحاضر. وهي تمائم ورقى تدفع أسباب الموت من المرض والحوادث والقوى الغيبية التي يعتقد أنها تترصد بالإنسان من الجان والمردة والعفاريت والحسد، وغيرها من القوى التي لا يمكن الإمساك بها وتظل في أفق المعنوي.

ولعل تلك المسألة القدرية في الصراع مع الموت وخداعه تكاثرت حتى وصلت الإبداع الإنساني في السينما، فحين أنتجت السينما لنا هاري بوتر، كانت من نواتج بحثه الدائم ذلك المثلث السحري الذي يمكنه خداع الموت، وهو يتكون من عصا الساحر الأعظم وحجر القيامة ورداء الاختفاء. كما استخدمت الفكرة في فلم قراصنة الكاريبي عبر دمعة الحورية، وكأس خاصة ونبع مياه الحياة، فحيث تكون هناك حياة يكون هناك موت أيضا، وتلك المعادلة قائمة في الإبداع الغربي.

قصص التراث الشعبي

ولم تقتصر فكرة خداع الموت على الميثولوجيا والفن، بل امتدت إلى التراث الشعبي الذي يحكي عن قصص في تلك المحاولة، لكنها تقع دائما فريسة القدرية المطلقة في ثقافتنا التي ما فتئت تؤكد على حتمية الموت وقدريته التي لا يمكن الفكاك منها، فجني المصباح والخاتم لا يستطيعان إحياء الموتى.

وتروى أمي قصة عن محاولة امرأة خداع الموت، ضنت بوحيدها أن تصيبه سهام الحرب، فعمدت حين اقترب القتال من دارها، إلى إخفائه داخل صندوق من حديد، لكن رصاصة طائشة اخترقت ذلك الصندوق، ولما انحسرت المعارك، تفقدت الصبي فوجدت أن الموت اختطفه داخل الصندوق.

كما تروي أمي عن يهود البحرين، أنه إذا مرض أحدهم فإن أهله كانوا يخبؤونه في أحسن الغرف التي يمكن غلق أبوابها ونوافذها، علهم يخدعون ملك الموت فلا يعرف إليه طريقا، فإذا فارق الحياة، جعلوا يندبونه ويقولون: الأبواب والنوافذ موصدة فمن أين جاءك الموت يا بقاء أعيننا؟!.

ومن تجربتي الحياتية شاهدت نسوة لا يبقى الذكور من ذريتهن، يندرن إن هن رزقن بأبناء أن يسموهن بأسماء غير معتادة في المجتمع مثل (قرطاسوه، وخيشوه .. إلخ)، وهي عبارة عن تورية بأسماء أشياء تبعد الموت عنهم، ذلك أنهم يمثلون أشياء جامدة لا حياة فيها، فلا يعرف الموت لهم طريقا. ونسوة أخريات يلبسن الفتيان ملابس الفتيات لكي يتجنبهم الموت، ذلك أن الإناث يعشن خلاف الذكور، وعلى النقيض من ذلك إذا كانت العائلة لا تعيش لها البنات، تسمي البنت المولودة حديثا بعدة أسماء فهي خديجة وفاطمة وزهراء وزينب في ذات الوقت، وكل ذلك خداع للموت الذي لا مفر منه.