جعفر الديري

خصصت مجلة كلمات في عددها التاسع 1988، حواراً مع المفكر والعالم النفسي الفرنسي ميشيل فوكو، حول الأدب والفلسفة والمؤسسة، قام بترجمته للعربية البروفيسور د.معجب الزهراني.

يؤكد فوكو في هذا الحوار أنه إلى الآن لم يحلل أحد من النقاد بشكل حقيقي وعميق كيف أن عدداً محدوداً من "الخطابات" كالخطاب "الأدبي والفلسفي" تستقبل بنوع من الاحتفالية الطقوسية وتوظف بشكل خاص جداً في الثقافة وذلك رغم تعدد الأشياء والخطابات التي وجدت وأعلنت!!

ويبدو له شخصياً، أن هناك دائماً، وذلك ضمن الرؤية التقاليدية المهيمنة، من يسعى لجعل الخطاب الأدبي والخطاب الفلسفي ذلك "الخطاب البديل" أو، أقله، ذلك الإطار العمومي الذي يحتوي بقية الخطابات .. علماً بأن قيمة الأدب ربما تكون خارج كل هذا، مشيراً إلى أن هناك أيضاً من يحصر التاريخ كله في ما قيل في القرن الثامن عشر وأن تطلب هذا الحصر المرور بأسماء مثل "فولتير" و"ديدرو" وكتاب آخرين، كما ظل هناك وهنا من يعتبر "النصوص الأدبية" "المصطفاة" و"المختارة" هي التعبير الأوحد عما كان قد تشكل وكأنه لم يكن بإمكانها أن تعاين كخطابات تندرج في خطابات أخرى وفي مستويات أخرى أكثر قرباً من المعيش.

نصوص مكرسة

ويتساءل فوكو: ما هي بالضبط تلك الفعالية التي تجعل من "المتخيل" – شعراً أو نثراً قصصياً – ينتشر ويتداول في مجتمع ما بشكل وخصوصية معينين؟ .. من جهة أخرى، ما الذي يجعل عدداً محدودا من بين كل هذه النصوص يصبح "مكرساً" و"مقدساً" ليتحول بالتالي إلى "أدب مؤسسة" هي بدورها تستعاد في مؤسسات أخرى كانت بدءاً مختلفة عنها "كالمؤسسة الجامعية" مثلاً؟ .. فهذه الأخيرة توشك الآن أن تتماهى مع "المؤسسة الأدبية"، فهنا مثلاً يوجد خط فاصل ومرسوم بشكل يمكن رؤيته جيداً في ثقافتنا بصدد هذه العلاقة.

ويضيف: في القرن التاسع عشر كانت الجامعة هي الفضاء الذي يتشكل داخله ما يسمى بـ "الأدب الكلاسي" الذي هو في جوهره، وحين نريد تحديده، لم يكن "الأدب المعاصر" آنذاك، إنما حول بفعل القائمين على "المؤسسة الجامعية" إلى أدب معاصر وإلى نموذج للقيم السائدة أي إلى مجموعة من المعايير الجمالية والنقدية المهيمنة على أدب تلك الفترة .. هكذا يتضح إذا أن هناك لعبة مثيرة حقاً نتج عنها تواطؤ بين الأدب والجامعة، اللتان ظهرتا في الأصل كتوأم تنزعان إلى التماهي والذوبان في بعضهما بشكل كلي. ونحن، اليوم، نعرف أن الأدب الموسوم بـ "الطليعي" لا يقرأ إلا من قبل الأكاديميين، كما نعرف جيدا أن الكاتب، بمجرد ما يتجاوز الثلاثينيات غالباً ما يجد له مكانا في الجامعة ويتحلق حوله مجموعة من التلاميذ والمريدين الذين يحصلون على شهاداتهم عن طريق دراسة أعماله، وهكذا يظل هو يعيش من "الأجر" الذي تدفعه المؤسسة الجامعية.

من كل هذا المشار إليه هنا تتشكل لدينا حقيقة كون الأدب يمارس وظيفته الأدبية بفضل، لعبة "اختيار وتقديس" مصدرها الجامعة التي تظل هي ذاتها المؤسسة "الموظف/ المستقبل" لهذا الأدب.

لا علاقة له بذاته

ويلفت فوكو إلى أنه من أجل إحداث "القطيعة" مع بعض الأساطير السائدة والمهيمنة، وبينها أسطورة الخطاب التعبيري الأدبي، كان من المهم جداً وضع المبدأ الأساس والذي يتعلق بكون الأدب "لا علاقة له بذاته"، مردفاً: بعد هذا إن كنا نود الحديث عن علاقات ما لهذا الخطاب فإنه يتعين علينا رواية الأدب كما لو أنه أقرب إلى "الموت" أو "الصمت" أي لابد من استبعاد الكاتب مما يكتب، وهنا ليس من الضروري ولا من المهم أن نعود لنستشهد بمقولات "بلانشو" أو "رولان بارت" بهذا الصدد مادام الأمر يتعلق، من هذا المنظور بمسألة جوهرية التي هي مسألة "لزوم الأدب ذاته". وأعتقد أن هذه هي المرحلة الأولى التي يمكن، بفضلها القطيعة مع تلك الفكرة / الأسطورة التي تشيع أن التعبير الأدبي هو وحده مكان التقاء وتقاطع كل مقولات ومحمولات الخطابات الأخرى، أو أنه النقطة التي تصب فيها كل هذه الأشياء .. وهكذا وكأن الأدب هو – مثل الخطاب الديني الثيولوجي – وحده الخطاب المطلق والشمولي!!.

حيز محدود للأدب

ويرى فوكو أن ثقافتنا تعطي للأدب حيزاً محدوداً بشكل غير اعتيادي فكم هم أولئك الذين يقولون الأدب؟ ما هو الحيز الذي يشغله الأدب في الفضاء العام الذي تنشر وتوظف "أو تشتغل" الخطابات عموماً؟ لكن هذه الثقافة نفسها تفرض على كل هؤلاء الأطفال، وهم في طور التشكل الثقافي، أن يمروا عبر ايدلوجية معينة، أو بالأحرى غير ميثولوجية أدبية متكاملة، وكما يتضح نحن هنا أمام نوع من التناقض الذي يرتبط، بشكل قاطع، مع محاولة إثبات أن الكتابة مجرد هدم وتخريب.

وهنا لا جدوى من القول بأن هذا الناقد أو ذاك يؤكد هذه المقولة أو تلك في مجلة أدبية أو في أخرى، فالأهمية القصوى تكمن في هذا التعاقد الذي يجعل كل الأكاديميين يقولون في نفس الوقت، صراحةً أو ضمنياً، ان كل القرارات الثقافية الحاسمة يتعين البحث عنها في مكان واحد ووحيد ومحدد .. عند "ديدرو" أو "رابليه"!! ألا ترى هنا أن الأمر يتعلق بنفس الإشكالية المشار إليها آنفا؟ فأولئك وهؤلاء يوظفون الأدب بنفس الطريقة بحيث يتم "دعم المواقف" بين المجموعة المسماة "طليعية" و"الجامعة" وربما أن هذا الدعم المتبادل هو الذي أوصلنا إلى حالة "الانحباس" الثقافي والسياسي التي نعيشها الآن.