تجربة وثائقية
فلنقل إننا أمام تجربة وثائقية "تسجيلية"، تتوسل الشكل الدرامي طريقاً لإعادة إنتاج الحكايا الواقعية قصصياً .. عملياً وبحسب العرف السائد في هذا النوع من القصص، ليس هنا من مشكلة .. إنما المشكلة تتحدد في ترسيم تلك العلاقة أو تلك المسافة التي تردم الهوة بين ( واقع يَحكي وواقع يُحكى).لا أزعم أن أمينة الكوهجي لم تمتلك الأداة الطيعة والمؤاتية لتعبر هذه المسافة ببصيرة القاص السارد، ولكن يمكنني القول إن أمينة الكوهجي عبرت هذا الطريق الوعر بكاميرا تسجيلية، صورت عدة مشاهد، دون أن تدير تلك الزوايا بحرفنة السارد، وعدته الأساسية، من وصف، ولغة ساردة، ولعب في الزمن، متجاوزة مساره الخطي المستقيم، إلى أزمنة أكثر تداخلاً وتشابكاً ( عدة السارد هذه ) .. لو أتقنتها أمينة لخرجت لنا بعمل روائي متقن، متعدد الأصوات، متعدد الرواة.بمقدورنا أن نبقي هذا الخيار التسجيلي للكاتبة كخيار سردي وفني قصصي، وهو خيار مطروح ومعمول في أكثر من تجربة كتابية درامية، بل إن الواقع هو أبو الحكايا كلها، لكن ضريبة هذا الخيار على صعيد التجربة الكتابية ستكون مكلفة .. على الأقل كقارىء وكمتلقٍ ستصدمك الحكاية درامياً لفظاعتها، وفظاعة تفاصيلها ويومياتها، وتراجيديتها، ونزفها المستمر، لكنها لن تحقق لك الصدمة سردياً وفنياً، لافتقادها لأهم أدواتها المطلوبة سردياً، هنا ستشعر بوصفك قارئاً أو متلقياً بألم الصدمة الدرامية من حكايا تلك النسوة المطلقات، ومن جحيمهن، لكنك لن تصاب بالدهشة التي تثيرها فيك قوة السرد والمخيلة.هرم فريتاجولو مشينا وفق هرم فريتاج لحققنا البنية الدرامية بكل سهولة ولكن الأمر أعقد من ذلك بكثير .. ما حصل في هذه التجربة أن المؤلفة أعدت كرسياً للاعتراف، وفضلت أن تبقى منصتة لتجارب أولئك النسوة ومآسيهن، ولم تشأ أن تتدخل سردياً أو فنياً في تلك الحكايا إلا بالقدر المطلوب الذي تتطلبه قصص أولئك النسوه، وتحتاجه من إشباع سردي لكي تصبح القصة أكثر درامية وأكثر تأثيراً، ونتج عن عملية كهذه أنك كقارىء، صار بمقدورك أن تتوقع منحنى فريتاج أين سينتهي بك في كل حكاية، لتشابه التفاصيل ووحدة الحدث .. فكل الحكايا هي لنسوة مطلقات ومعنفات أسرياً، ومن لم ينلها العنف المادي من ذلك الرجل الشريك، والذي يفترض به أن يكون مؤتمناً، نالها عنف معنوي أشد، حاطّ من كرامتها ومن ذاتها.ومع السير على المنحنى الدرامي الذي اقترحه فريتاج فإن التفاصيل واليوميات تتشابه إلى حد كبير في كل حكاية أو في كل قصة، تبدأ بالحب والوئام والانسجام، لتصعد إلى التوتر، فالذروة، فالاصطدام فالطلاق، والتوهان في أروقة المحاكم انتظاراً لورقة الطلاق .
وحينما قلت آنفاً أن ضريبة هذا النوع من الاعترافات والقصص مكلفة على الصعيد السردي، عنيت فيما عنيت أن المؤلف لن يبقى على الحياد تجاه شخوصه وكائناته السردية، بل سوف يتلبس بكل حالات الشخصيات، وسيتعاطف معها بكل قوة، وسيترتب عليه أن يصدر حكمه الأخلاقي على الشخصيات النقيض، المؤزمة والقائدة للصراع داخل الحكاية،، وسيترتب على دمج هذه المسافة بين الكاتبة وشخصياتها، غياب الراوي بضمير "هو" في الحكاية، ليحل الراوي المشارك مكانه (ولن يكون هناك راوٍ آخر خارج صوت المؤلفة ذاتها أو صوت الشخصيات المعنفة وهي تقص على المؤلفة حكايتها. فالكاتبة أسلمت عملية الحكي في بعض قصصها إلى الحالة والشخصية ذاتها، وأحياناً تتولى هي الحكاية نيابة عنها.غياب المونولوج
غلب على جميع القصص الحوار الخارجي الديالوج، وغاب الحوار الجواني حوار الذات ( المونولوج).ختاماً إن عملية إعادة إنتاج الواقع، وسردنته يمر بعملية معقدة، تتشابك فيها اللغة بالسرد والوصف والانفتاح على فضاء النص الروائي، من مكان، وزمان، وشخصيات، ولو أن المؤلفة عملت على دمج تلك الحالات وجوانيتها وعوالمها الداخلية بمخيلتها هي ككاتبة، واشتغلت على أن تصنع واقعها الروائي الموازي، لكنا أمام تجربة قصصية أكثر عمقاً وغنى، وأكثر حكائية مما هي عليه.