تطرقنا في عمودنا السابق إلى أهمية مراعاة وضمانات حقوق المتهم في جمع الاستدلالات بواسطة جهات الضبط القضائي التي حددها قانون الإجراءات الجزائية، وقبل التطرق إلى آثار البينة وردها أو الأخذ بها ودور القاضي في ذلك، سنتناول في هذا العمود مفهوم ومعنى الإثبات حتى يستبين للقارئ الكريم أهميته في المسائل الجنائية.

يختلف تعريف البينة في الشرع والإصلاح، فقد وردت كلمة بينة في القرآن والسنة، إلا أن الفقهاء اختلفوا في معناها إلى ثلاثة آراء؛ الرأي الأول يرى أن البينة تعني شهادة الشهود ويمثله جمهور الفقهاء، والرأي الثاني يرى أن البينة هي كل ما يبين الحق ويظهره ويمثله ابن قيم الجوزية، والرأي الثالث يرى أن البينة تعني شهادة الشهود وعلم القاضي والإقرار وزعيمه ابن حزم الظاهري.

أما في الإصلاح، فعرفت بأنها قيام الحجة على ثبوت السبب عند الحاكم أو هو تقديم الحجة وإعطاء الدليل أمام القضاء وبالطرق التي حددها القانون على واقعـة قانونية ترتبت عليها آثارها حتى تبلغ حد اليقين، كما عرفها بعض الفقهاء بأنها إقامة الدليل بحضور القاضي على وجود واقعة قانونية بـالطرق التي رسـمها القانون.

وعلى ذلك، فالإثبات في القـانون هو إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي ينص عليها القانون على صحة واقعة قانونية يدعيها أحد طرفي الخصومة وينكرها الطرف الآخر بحيث لو نجح أو فلح في التدليل عليها خوله ذلك صدور حكم لمصلحته.

تكمن مهمة الإثبات المدني في توصل المدعي إلى إعطاء حقه مظهراً خارجياً يقتنع به القاضي ويعترف بآثاره إذا ما رفع الأمر إليه عن طريق العملية القانونية.

أما في القانون الجنائي فإن الدعوى الجنائية تبدأ بمرحلة الاشتباه والاستقصاء والتحري ثم الاتهام ثم احتمال أو ترجيح الإدانة، فأما الإدانة أو البراءة ومهمة الإثبات هي تحويل الشبهة إلى يقين، فإن اخفـق الادعاء في إسناد التهمة للمتهم مادياً ومعنوياً بأدلة مقنعة، فـلا يمكن أن تـصل المحكمة إلى الإدانة وتتقلب قرينة البراءة، وقد حدد قانون الإثبات المسائل التي لا يتطلب إثباتها وتلك التي تتطلب إثباتاً، وبين الوقائع التي يمكن تقديمها كبينة، كما وضع شروط وضوابط الوقائع التي يجوز تقديمها في البينات سواء تعلقت هذه الشروط أو الضوابط بالقبول أو الوزن أو الرد أو خلاف ذلك، والمبدأ العام أن الأدلة القانونية هي طريق الإثبات في المواد الجنائية، فالقاضي غير مقيد بطريق مخصوص من طرق الإثبات بل له أن يكون اعتقاده بثبوت الجريمة من جميع ظروف الدعوى، سواء كان ذلك بالكتابة أو بأي طريق آخر من طرق الإثبات كشهادة الشهود أو القرائن أو غيرها، إلا أنه في بعـض الحالات ينص القانون الجنائي على أدلة قانونية معينة تكون هي طرق الإثبات في المواد الجنائية، فقد اشترط في جريمة الزنا دليلاً معيناً وأعطى لبعض المحاضر قوة قانونية في الإثبات.

فالأدلة في القانون الجنائي مقبولة مـن حيث المبدأ ولها جميعها نفس القوة، سواء كانت من قبيل الشهادة أو الاعتراف أو الكتابة أو القرائن، أياً كانت طبيعة الجريمة، ولا يجوز للقاضي أن يستبعد أياً مـن هـذه الأدلة، ولما كان لكل طريق من طرق الإثبات نفس القوة التدليلية التي لغيره، فإن للقاضي أن يستنتج من أي واحد منها الدليل الذي يمكن أن يستمده من أي طريق آخر غيره. ومع ذلك فإن من المقرر أن للمحكمة كامل السلطة في تقدير القوة التدليلية لعناصر الدعوى المطروحة أمامها، وأنها الخبير الأعلى في كل ما تستطيع أن تفصل فيه بنفسها أو بالاستعانة بخبير يخضع رأيه لتقديره.

هنالك ثلاثة مذاهب لطرق الإثبات، وهي المذهب الحر ويطلق عليه المذهب المطلق، والمذهب الطليق وفي هذا المذهب لا يرسم القانون طرقاً محددة للإثبات ويترك القاضي حراً في تكوين عقيدته من أي دليل يقدم له، كما أنه يترك للمتخاصمين حرية اختيار الأدلة إلى يرون تقديمها، وهو مذهب يطبق في الغالب في الإثبات الجنائي حيث إن معظم التشريعات لا تأخذ به في المسائل المدنية، ويظهر بصورة واضحة مـن موجبات التعزير التي تقبل كل أو معظم الأدلة القانونية، والمذهب المقيد: ويطلق عليه أيضاً المذهب القانوني أو الجامد، ومؤدى هـذا المذهب أن يتولى المشرّع تحديد طرق الإثبات وقيمة كل منها والأحوال التـي يجوز فيها وكذلك الإجراءات التي يقدم بها الدليل إلى القضاء، وفي هذا المذهب يكون القاضي محايداً فلا يعاون أحد الخصوم ولا يقضي بعلمه الشخصي.

أما المذهب الثالث فهو المذهب المختلط: هذا المذهب جاء أخيراً ليجمع بين مزايا المذهبين السابقين وليتلافى عيوبهما، فيأخذ المشرع موقفاً وسطاً بين المذهبين خالطاً بينهما، ولتحقيق ذلك يلتزم القاضي من الإثبات موقف الحياد كأصل، ولكن هناك دور إيجابي له في بعض الحالات، وفي هذا المذهب تتحدد طرق الإثبات وتتعين قوة بعضها ليكون للقاضي في بعضها الآخر سلطة في تقدير قيمة الدليل، وهذا المذهب هو الذي أخذ به القانون البحريني.

مكتب المحامي بندر بن شمال الدوسري