هدى حسين
يعدُّ التعليم في البحرين من القطاعات الأساسية التي يرتكز عليها برنامج عمل الحكومة، فقد بدأ تطوير التعليم فعليًا مع إطلاق سمو ولي العهد لخمس مبادرات رئيسية، بدءًا من إنشاء هيئة جودة التعليم والتدريب، وتأسيس كلية البحرين التقنية، وبرنامج تحسين أداء المدارس من ناحية إمكانيات وأساليب التعلىم داخل المدارس، وتأسيس كلية البحرين للمعلمين، إلى جانب ترتيب أوضاع جامعة البحرين.وأمام التحولات الكبيرة والمتسارعة التي طرأت على المجتمعين المحلي والعالمي، أضحى النظام التعليمي أكثر من أي وقت مضى في حاجة كبيرة إلى أن يكون مواكبا لمهارات القرن الواحد والعشرين، حيث أصبح دور معلّم ومتعلّم القرن الواحد والعشرين حيويا في الارتقاء بمنظومة التعليم وإيجاد واقع تعليمي عصري ومتطور وبرؤية كونية، يبنى على علاقة قوية بين التعليم والمهارات الوظيفية، ويقوم على ركائز أساسية أبرزها الاحترام والحقوق والمسؤولية، ضمن مشروع "المدارس الصديقة لحقوق الإنسان Human Rights Friendly School". هكذا تحدث الباحث في الشأن التربوي د.فاضل حبيب الباحث التربوي في حواره مع "الوطن" حول آفاق التعليم في مملكة البحرين. والباحث فاضل حبيب من مواليد ١٨ أكتوبر ١٩٧٥ ، وحاصل على درجة الدكتوراه تخصص تطوير المناهج وطرق التدريس، كاتب في الشأن التربوي، عمل مدرسا من ١٩٩٩ م ولغاية ٢٠١٣ بالمدارس الخاصة والحكومية ثم التدريس في الجامعات من عام ٢٠١٤ ولا يزال ، لديه كتابان، كتاب تربية حقوق الإنسان الطريق نحو مجتمع المعرفة، وكتاب دليل النساء المتعرضات للعنف الأسري ، حاليا يعتكف على إصدار جديد عن حقوق ذوي الإعاقة.* يمثل أولوية التعليم من أولويات عملية الإصلاح كما تمَّ التأكيد عليه في ورشة العمل التي دشنها سمو ولي العهد في العام 2005 حول ثلاثية "إصلاح التعليم والتدريب وسوق العمل" برأيك ماذا تحقق منذ تلك اللحظة ولغاية الآن؟
من دون شك، فإن التعليم يعدُّ من القطاعات الأساسية التي يرتكز عليها برنامج عمل الحكومة، فقد بدأ تطوير التعليم فعليًا مع إطلاق سمو ولي العهد لخمس مبادرات رئيسية، بدءًا من إنشاء هيئة جودة التعليم والتدريب (جهاز مستقل معني بالرقابة على المدارس يتبع مجلس الوزراء ويخضع لإشرافه)، وتأسيس كلية البحرين التقنية (بوليتكنك البحرين)، وبرنامج تحسين أداء المدارس من ناحية إمكانيات وأساليب التعلىم داخل المدارس، وتأسيس كلية البحرين للمعلمين، إلى جانب ترتيب أوضاع جامعة البحرين.
وأعتقد أنه ثمة مفاهيم إيجابية كثيرة قد تغيّرت لدينا كبحرينيين تجاه العملية التربوية والتعليمية، فلم يعد التعليم شأنًا خاصًا بالمجتمع المدرسي فحسب، وإنما نرى اهتمامًا من أولياء الأمور أيضًا لمعرفة مستوى أداء المدرسة التي ينتمي إليها أبناؤهم، وما درجة تقييمها من قبل هيئة جودة التعليم والتدريب؟ وما مواطن القوة والضعف فيها؟ وغير ذلك من الأسئلة.
ولذلك، ونتيجة للتحولات الكبيرة والمتسارعة التي طرأت على المجتمعين المحلي والعالمي، قامت هيئة جودة التعليم والتدريب في فبراير الماضي 2019 بإصدار الإطار الجديد لمراجعة أداء المدارس الحكومية والخاصة، ويولي هذا الإطار اهتمامًا بالغًا للمهارات المطلوبة بالنسبة للمتعلّم وبأنها تمثل أمرًا أساسًا، بغية الوصول إلى فردٍ قادرٍ على التعامل مع متطلبات المراحل اللاحقة لتخرّجه من المدرسة؛ سواءً كانت متعلقة بمتابعة تعليمه العالي أم الانخراط في سوق العمل، كما يركز الإطار ذاته على تطوير المخرجات التعليمية لها، من خلال الاستناد إلى مهارات القرن الواحد والعشرين.
*ما المقصود بمهارات القرن الواحد والعشرين؟
حدّد الإطار الجديد لهيئة الجودة ثمانية مهارات باعتبارها مرتكزًا أساسيًا في عملية التقييم الخارجي لمراجعة أداء المدارس الحكومية والخاصة، وهي (مهارة الثقافة التكنولوجية، مهارة التفكير الناقد، مهارة التواصل والعمل الجماعي، مهارة الإبداع وحل المشكلات، مهارة القيادة وصنع القرار، مهارة المواطنة المحلية والعالمية، مهارة الريادة والمبادرة، مهارة التمكن اللغوي). وهنا يأتي دور معلّم ومتعلّم القرن الواحد والعشرين في توظيف هذه المهارات في التطبيقات والممارسات المدرسية اليومية من خلال الأنشطة الصفية واللاصفية.
*كيف يمكن توظيف هذه المهارات بطريقة صحيحة واحترافية؟
إنني أعتبر هذه المهارات الثمانية غير منفصلة عن بعضها البعض، وإنما هي مترابطة ومتكاملة إلى حد كبير، وكأنها وجدت لتكون هكذا متداخلة مع بعضها، ويتلخص دور معلّم ومتعلّم القرن الواحد والعشرين في الارتقاء بمنظومة التعليم وإيجاد واقع تعليمي عصري ومتطور وبرؤية كونية، قادرة ليس فقط على تزويد المتعلمين بمجموعة من المعارف والمعلومات، وإنما بتدريبهم على اكتساب المهارات والقيم الكونية التي نصت عليها الأهداف الـ 17 للأمم المتحدة في مجال التنمية المستدامة، ولنأخذ على سبيل المثال: مهارة المواطنة المحلية والعالمية، وهي مهارة مرتبطة بالقيم المدرسية وذات بُعدٍ أمميٍ، حيث بإمكان معلّم ومتعلّم القرن الواحد والعشرين ابتكار أنشطة صفية من قبيل: ركن المواطنة وحقوق الطفل/ حقوق المرأة/ حقوق الإنسان/ حقوق كبار السن (توزيع الأدوار في التمثيل)/ حقوق ذوي الإعاقة، مسابقة صفّي أجمل، الانضباط وإدارة الوقت، المحافظة على الممتلكات، ترشيد استهلاك الكهرباء وما إلى ذلك.
وإلى جانب ذلك، ثمة أنشطة لا صفية لا تقل أهمية عن الأنشطة الصفية عند تطبيق مهارة المواطنة المحلية والعالمية، مثل توظيف برنامج الطابور الصباحي أو الإذاعة المدرسية في عرض مسرحية تهدف إلى تنمية الوعي بأهداف التنمية المستدامة كالتغيّر المناخي، أو الاهتمام بالحديقة المدرسية والمساحة الخضراء في الفضاء المدرسي أو ابتكار المشاريع البيئية التي تضمن لنا الاستدامة مثلاً في الأمن المائي أو الأمن الغذائي أو الطاقة المتجددة، أو القيام بالحملات اليومية التي يتشارك فيها كل من الطلبة والمعلمين في الفضاء المدرسي لمنع رمي المخلفات أو النفايات التي لا تليق بالمجتمع المدرسي، وتفعيل اللجان والبرلمانات الطلابية للمساهمة في تكريس مبدأ الحقوق والمسؤوليات والاحترام في الحرم المدرسي، والانخراط في برنامج المدارس المنتسبة لليونسكو، أو المدارس المعززة للمواطنة وحقوق الإنسان.
*وما علاقة التعليم بالمهارات الوظيفية؟
هناك علاقة قوية بين التعليم والمهارات الوظيفية، ونعني بالمهارات هنا تلك الآليات والطرق التي تثري تجربتنا الحياتية في مجالات التعليم والعمل والعلاقات والإنجاز؛ لأنها تتناول أساليب ونماذج التفوق وطرق الأداء.
*كيف يمكن التوفيق بين ما ذكرته آنفًا وبين الحقائق العلمية التي تشير إلى أن نحو 80% من الوظائف سوف تختفي بعد عقدين من الزمان؟
منشأ هذه الحقائق هو أن المعلومات تتضاعف كل عقد من الزمان، ولا توجد وظيفة محددة للأشخاص في المستقبل، فقد يكون لديهم 4 أو 5 وظائف، أي أنهم سيحتاجون إلى 4 إلى 5 مهارات أساسية من حزمة مهارات التعليم في القرن الواحد والعشرين، فإذا أردنا تطويرًا حقيقيًا ملموسًا وجوهريًا في التعليم فلا بد أن يكون شغلنا الشاغل هو إيجاد نظام تعليمي يكون دوره الأساسي تعليم الطلبة كيف يتعلمون، وماذا كانت توقعات المتعلمين من المدرسة ولَمْ تقدّمها لهم؟!
*هل تتفقون مع من يرى بأن بعض الطلبة المتفوقين في المدارس أو الجامعات لا يجيدون أدنى مستويات المهارات المطلوبة لسوق العمل؟دعونا نتفق على مفهوم التفوق الدراسي، ما المقصود به؟ ويا تُرى من هم المتفوقون في مفهومنا؟ للأسف الشديد، فإن المتفوقين ليسوا أولئك الذين يتقنون المهارات الوظيفية وإنما هم الأكثر قدرة على الحفظ والاستظهار والتنافس للحصول على أعلى المعدلات الدراسية، وهو ما عبّر عنه المفكر البرازيلي باولو فريري بالتعليم البنكي أو المصرفي (Banking Learning ). فقد أصبح الشغل الشاغل للطالب المدرسي وكذا الجامعي، حفظ المعلومات وإيداعها في الذاكرة القصيرة المدى (البنك)، ومن ثم سحب هذه المعلومات من (البنك) وإعادة تفريغها في أوراق الامتحانات (استمارات الإيداع في البنك) ليتصدر اسمه في قائمة الطلبة المتفوقين في الصحف المحلية وإقامة حفلات التكريم في نهاية العام الدراسي وانتهت القصة!
*إذن، يتضح من كلامك أن ثمة ضعفًا في المخرجات التعليمية أليس كذلك؟نعم، فلنكن صريحين مع بعض، ما الذي أدى إلى هذه النتيجة؟! واضح أن الجميع لا يزال يربط تطوير التعليم بزيادة التحصيل الدراسي والأكاديمي والمعدلات الدراسية العالية، وبالتالي لن يصلح حال التعليم طالما لم نتحرّر من هذه الذهنية التي تغيّب دور العقل وتكرس لدينا الحفظ والتذكر وهما أدنى مستويات المعرفة، وفي المقابل تجاهلنا مهارات التفكير العليا لدى الطلبة كالتركيب والتحليل والتقويم، وحتى نظم التقويم والامتحانات فقد صُمّمت بطريقة لا يستطيع الطالب المدرسي أو الجامعي أن يحيد عنها قيد أنملة، فلا يطلق العنان للتحليل وإبداء الرأي والتفكير الناقد وغير ذلك. ولذلك فإن كثيرًا منا يختزلون مؤشر سعادة أبنائنا وبناتنا الطلبة أو شقائهم بمعدل ذكائهم العقلي وتحصيلهم الدراسي والأكاديمي فقط، أو يصنِّفون الطلبة على أنهم أذكياء أو أغبياء بالنظر إلى حصولهم على أعلى المعدلات الدراسية، بينما تلعب المهارات دورًا أساسيًا في صقل شخصية الفرد، فقد يكون التحصيل الدراسي لطالبٍ ما ضعيفًا، إلا أنه يمتلك بعض المهارات المطلوبة في سوق العمل، وكل ما هو مطلوب منا هو تشجيعه على تنميتها وتطويرها والتعمّق والتخصص فيها، وهذا ما جعل مفهوم الذكاء أكثر واقعية، فهناك ذكاءات متنوعة كالذكاء اللغوي أو اللفظي، والذكاء المنطقي أو الرياضي أو الرقمي، والذكاء الحسي الحركي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء الفردي، والذكاء الموسيقي، والذكاء البصري أو الصوري، والذكاء البيئي وما شابه ذلك.
*هل هناك تجارب دولية مفيدة يمكن الاسترشاد بها في مجال المهارات؟لنأخذ على سبيل المثال تجربة اليابان في مجال التعليم، إذ تقوم المناهج التعليمية في المدارس لديهم بتزويد الطلبة بالمهارات الضرورية للعمل بفعالية وإتقان ضمن فريق، فالمهارات التي يجب أن يتقنها الطالب تنقسم على نوعين، إحداهما: المهارات الفنية، والأخرى: المهارات اللازمة لعلاقات العمل التي تعزّز من إيقاع الإنتاجية والتميّز، وهما وجهان لعملة واحدة، كما وأنهما يهيئان الطلبة لسوق العمل مستقبلاً، وبالتالي تتقلَّص الهوَّة بين ما تقوم به المدرسة من تعليم من جهة، وما يحتاجه سوق العمل من مهارات من جهة أخرى، وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأن التعليم في اليابان قائم على تطبيق استراتيجية المهارات للجميع Skills For All في الوقت الذي لا زلنا نتحدث فيه عن التعليم للجميع Education For All وهي من المفارقات المهمة التي تدعونا جميعًا للتأمل وإعادة النظر في سياساتنا التربوية والتعليمية.
*لا يختلف اثنان على ضرورة إصلاح التعليم، ولكن من أين نبدأ؟إن إصلاح التعليم في أي بلد لا بد أن يبدأ من التعليم الأساسي، فالمهارات التي من المتوقع أن يكتسبها الطلبة في هذه المرحلة كثيرة ومتنوعة، وتزداد أهميتها وفعاليتها في المرحلة الثانوية التي توجِّه الطلبة للقيم والأخلاقيات التي تحفِّزهم على الاجتهاد والإتقان في العمل، إلى جانب تدريس المهارات والمعارف الأساسية اللازمة للمهن المستقبلية، بحيث يصبح الفرد قادرًا على اتخاذ القرارات في تحديد المساق الجامعي الذي ينسجم مع ميوله ورغباته، كما ويكتسب مهارة التفكير النقدي في التعامل مع المواقف والتحديات.
*على المستوى المحلي، هل توجد قرائن تؤكد على ضعف المهارات لدى الخريجين؟أجل، فقبل بضعة أشهر قامت إحدى الجامعات المحلية بإجراء دراسة ميدانية حول مدى جهوزية الخريجين الجامعيين لسوق العمل، شملت زيارات ولقاءات مباشرة مع أكثر من أربعين صاحب عمل من مختلف المؤسسات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة.
أظهرت الدراسة بأن هناك نقطتين جديرتين بالاهتمام والمناقشة، إحداهما: حصول الخريجين على معدلات عالية أثناء الدراسة الجامعية مقابل ضعف المهارات الوظيفية وهو أمر غير محبّب لدى أصحاب العمل. والأخرى: عبَّر بعض أصحاب العمل عن عدم رضاهم بشأن سلوكيات وأخلاقيات العمل لدى بعض الخريجين، كالتأخير وعدم الانضباط الوظيفي والاهتمام بالعمل وذلك يعني أن هناك هوة سحيقة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل.
*أجدك تتحدث كثيرًا عن التربية على حقوق الإنسان، فماذا تقصد؟
أنطلق في فهمي للتربية على حقوق الإنسان من خلال الحق في التنمية، والتعليم النوعي يمثل الهدف رقم (4) من أهداف التنمية المستدامة 2030، وما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى إعداد "المعلم السوبر" الذي هو معلّم القرن الواحد والعشرين، الذي ينظر للتعليم برؤية كونية مستندة على مبادئ حقوق الإنسان، وقد سعينا قبل عشر سنوات لإطلاق مشروع "المدارس الصديقة لحقوق الإنسان Human Rights Friendly School" الذي يقوم على ركائز أساسية أبرزها الاحترام والحقوق والمسؤولية.
في البداية، قيل لنا من بعض زملاء المهنة: كفى هراءً، حقوق الإنسان شعار فارغ ورجاء لا تلعب بالنار ولا تقحم حقوق الإنسان في المدارس! كنت حينها أؤمن بمشروع تنويري يتخطى تخصيص مقرر للمواطنة وحقوق الإنسان إلى إحداث تغيير في سلوكيات وممارسات تربوية تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان، ويكون مهندسه الأول المعلم تحقيقًا لما كنا نصبو إليه "صناعة المعلم".
لا زلت مقتنعًا بضرورة إعداد معلم ومتعلم القرن الواحد والعشرين وفق مفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان، وتعزيزًا للمشروع القائم حاليًا وهو "المدارس المعززة للمواطنة وحقوق الإنسان" الذي يطبق في عدد من المدارس البحرينية.
رغم كل التحديات التي تحول دون جعل حقوق الإنسان أسلوب ونمط حياة في الفضاء المدرسي، فلا زلت أقول: إنني أحمل خشبة تربية وتعليم حقوق الإنسان على كتفي منذ 15 عامًا ولا أجد من يصلّبني عليها!