كريم رضي

مضى نحو ربع قرن على دراسة د.علوي الهاشمي (ما قالته النخلة للبحر) تلك الدراسة التي تمثل مع لاحقتها (السكون المتحرك)، درة ما كتب في نقد الشعر في البحرين ومن البحرين. نقد القصيدة الذي يصل إلى درجة أن يكون قصيدة النقد، بحسب أحد كبار النقاد. فيما سيكون على ناقد الشعر في آخر مجموعاته الشبابية اليوم أن يكتب عن (ما لم تقله النخلة للبحر ولم يقله البحر للنخلة أيضا. ما لم يقله أحد لأحد).

مثالا، لا حصرا، فقد سمح ما يمكن تسميته بـ "الاجتماع الشعري" لسلسلة من شعراء البحرين يمثلون مرحلة "الإحياء" (العريض، الوائلي، الشيخ إبراهيم، عبد الرحمن المعاودة)، ثم مرحلة "الحداثة" خاصة ولكن ليس حصرا "الثورية الوطنية" منها (علي عبد الله خليفة، قاسم حداد، علي الشرقاوي، علوي الهاشمي، إبراهيم بوهندي، حمدة خميس،غازي القصيبي)، أقول سمح هذا الاجتماع الشعري لصاحب دراستي "ما قالته النخلة للبحر" و"السكون المتحرك" أن يقيس أمداء الطبيعة والمرأة والإنسان والوطن في نصوص شعراء تباعدت مستوياتهم واختلفت مشاربهم الفنية والأيديولوجية.

طفل ينمو

مع ذلك، مثل هذا الاجتماع أرضية مكنت الناقد من الانطلاق منها لاعتبار تجربتهم كلا متطورا في سياقات متعددة ونسق واحد وبحيث يصبح نتاجهم إن صح التشبيه قصيدة واحدة كبرى تمثل تجليات هذه المكونات الأربعة، وكأنها مكونات الكون بحسب اليونانيين القدماء وهي النار والماء والتراب والهواء. وسيصل الناقد العاشق لما ينقد في منهجية دقيقة وصادقة أخذها على نفسه وهو يكتب هاتين الدراستين الأهم في تجربة الشعر في البحرين، إلى أننا أمام تجربة جماعية يتمثل لنا فيها الشعر كطفل ينمو في تعامله مع هذه العناصر من مرحلة العلاقة العفوية إلى مرحلة العلاقة التفاعلية التي تكون فيها هذه المكونات مستقلة في ذاتها أمام الشاعر من جهة، ومتفاعلة معه في علاقة متكافئة وندية من جهة أخرى، لتتحول من استخدام البلاغة إلى بلاغة الاستخدام ومن الوصف إلى التفاعل.

بدون ذلك (الاجتماع الشعري)، أي بدون أن يكون لأولئك الشعراء فضاءهم المشترك في الوجود خارج النص، وخاصة حين نتحدث عن تجربة أسرة الأدباء والكتاب وهي تحتفي هذا العام بيوبيلها الذهبي، لم يكن ممكنا أن نرى ما يشبه الكتابة الجماعية للقصيدة وكأنها جدارية من جداريات أصيلة، وبحيث أنه في مرحلة ما ومع دواوين أكثر من شاعر، سنجد أنفسنا مع نشيد بل نشيج وطني إنساني واحد مثل المارش، حيث عناوين (خروج رأس الحسين من المدن الخائنة)، (الدم الثاني)، (من أين يجيء الحزن)، (إليك أيها الوطن، إليك أيتها الحبيبة)، (أنين الصواري)، (الرعد في مواسم القحط).

اجتماع مفقود

هذا الاجتماع الشعري هو المفقود اليوم. أحسب أن لدينا اليوم من لا يقلون فتوة وجمالا عن فرسان تلك المرحلة. هم لا يقلون اشتراكا في العناصر التي كونتهم، لكنهم يتباعدون في العناصر التي كونوها. مثلا هم من مواليد النصف الثاني من عقد سبعينيات القرن العشرين إلى منتصف الثمانينيات، صدرت دواوينهم الأولى في منتصف العقد الأول من الألفينات. بدأوا جميعا بالتفعيلة ثم انتهوا إلى النثر. احتفت تجاربهم الأولى بالوطن والإنسان.

كنت قد قلت غير مرة "لقد قذف جيل تأسيس الحداثة جرثومة الوطن والإنسان في تجربة الشعر البحريني مرة واحدة وإلى الأبد". عبروا جميعا مخاضات ما عرف بـ"الربيع العربي" بين هلالين إن شئتم. لكن ما الذي لدينا اليوم من هذه المجموعة كمجموعة لا كأفراد. مهدي سلمان، وضحى المسجن، أحمد رضي، أحمد الستراوي، علي الجلاوي، زينب المسجن، جعفر الديري، حسين فخر، سوسن دهنيم.

في صحة الفراغ

في عام 2010 ومع مهرجان الشعراء الشباب في مملكة البحرين، أصدرت أسرة الأدباء والكتاب لهم مجموعة مشتركة بعنوان (في صحة الفراغ). الحق أن هذا الفعل الجميل لم يتح للمجموعة الحداثية الأولى المؤسسة لأسرة الأدباء والكتاب. كتاب القصة فعلوا ذلك في سبعينيات القرن الماضي، في مجموعتهم (سيرة الجوع والصمت). لكن ليس الشعراء أبدا. أولئك كان لهم اجتماعهم خلف الشمس مرة وأمامها مرات. اجتماعهم معا. الأهم اجتماعات السجال حول التجربة. حول الشعر أولا، الشعر في ذاته، ما هو، مفهومه، هويته.

راهن الشعر

والآن ثم ماذا؟ اليوم؟ هل الشعر هو فقط قل قصيدتك وامض؟ ألا يكون من شيء بينهم غير أن يكون كل شاعر صديق نصه؟ رب قائل ألم تحل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم محل الاجتماع المباشر؟ حق ذلك لو أننا نتحدث عن كتابة النص لا عن صناعته. وسائل التواصل الاجتماعي مسؤولة عن كوننا طغاة صغارا، نرسل نصوصنا كفرمانات ثم نتلقى عنها التغذية الراجعة من الرعية. القدرة على كبس الزر. عندما يكون كل الأمر متوقف على ما هو عدد القتلى كما قال مجنون ذات رئاسة أو رئيس ذات جنون.

لدى جيل التأسيس للحداثة، عبرت القصيدة مخاض الايديولوجيا ومخاض الفن. كانت اللقاءات المباشرة بين الشعراء وجمهورهم من ناحية، ثم وهو الأهم بينهم أنفسهم من ناحية أخرى مصهر التجربة الشعرية. كان للجمهور الألفي في نادي النسور أن يوقف الشاعر بعد الأمسية ويلومه على أنه لم يقل شعرا حقيقيا. "مات الكورس" سيقول قاسم حداد وأمين صالح في 1984، "لا تكن بوقا لثورة ولا مجتمع" سيقول إمرتو إيكو. ليكن أنه كذلك.

لكن ثمة الشعراء. هذا اللااكتراث بمفهوم الشعر واستبداله بالاكتراث بنص الشعر فقط. هذا الضجر من كل لقاء مباشر يهدف إلى التساؤل عن الشعر ما هو وإلى أين. هذا الولع بـ (قل قصيدتك وامض) سيء جدا. خطير. فظيع. الولع بأن يسأل الشاعر ذات أمسية: "حسنا متى هي فقرتي في الأمسية؟ هذا كل ما يعنيه". إن كان هذا هو ما سيموت. فمرحى بالموت.

فرصة لا مثيل لها

في البحرين اليوم تتواجد فرصة لا نظير لها في تاريخ الشعر في التاريخ القريب للشعر في هذا البلد. لأول مرة يوجد هذا العدد الكبير من الشعراء الجيدين من حيث بنية اللغة والشكل. الآن هناك جيل أحدث أيضا من جيل شعراء العقد الأول من الألفينات. مجموعة أحدث نصا وعمرا. مجموعة تتصل بالشعر الموزون. ينحاز قسم منها إلى قضية الحب أولا. فواز الشروقي، علي المؤلف، سمية جميلي، وشباب آخرون عبد الله زهير وحسين أبو صفوان وإيمان الشاخوري وإيمان سوار. نحن أمام عدد كبير، في هاتين المجموعتين الرائعتين، قادر على الكتابة بمستوى تنعدم لديه أخطاء البدايات في اللغة وفي الوزن. ولا غرو، لقد كانت البحرين دائما بلد الشعر. أعني منذ جلجامش الذي جاء دلمون ملكا يبحث عن خلود الجسد، فسرقت منه زهرة الخلود ومنحته خلود الزهرة المصنوعة من الكتابة. ثمة كتيبة من الشعراء. اليوم.

جزء من ورقة بعنوان (العبث المجدي) .. قدمت إلى منتدى أصيلة – المغرب حول "الشعر في عالم متغير" .. 4 يوليو 2019.