جار الله الحميد
إن قصتي هي محاولة للخروج من مأزق ذاتي أعيشه ويتلخص في الحوار الدائم بين داخلي وخارجي. القصة القصيرة بالنسبة لي بدأت منذ دفاتر المدرسة، منذ سوق الصناع ومكتبة المدرسة العزيزية بحائل أول ما تعرفت على قصص بعض الكتاب المصريين، صحيح أنني في تلك الفترة كنت أحمل مفهوماً للتكتيك القصصي اختلف الآن، ولكنني الآن أرى أن قصتي هي حلمي المستمر والدائم، هي محاولتي للوصول إلى تعبير شامل عن ذاتي باعتبار أنني آمنت – غير متأخر- بأن نقل الذات إلى القاريء هو أهم ما يريد المبدع أن يقوله.
أما بالنسبة للتطور، فتسبقه فترة توقفت فيها عن القراءة والكتابة لأنني وصلت إلى مرحلة من عام 1975 تقريباً، آمنت فيها بعدم جدوى الكتابة بأي شكل من الأشكال. كان ثمة هاجس داخلي بأن الكتابة لن تغير شيئا لا من واقعي الشخصي ولا من الواقع العام، ربما شارك في هذه القناعة إحساسي بأن الفن القصصي، وحتى الشعر الشعبي، توقف عند حد معين، فلم تعد هناك فتوحات أخرى في مجال الابداعات، وربما يكون هذا عائداً إلى قلة قنوات الاتصال في الثقافة العربية في بلادنا.
بعد هذه الفترة بسنتين أو أكثر، أحسست بأن القيمة الحقيقية لوجودي بالذات تكمن في الكتابة، أي ما أقوله بالضبط هو أنني أحسست بأن عملي الأساسي هو الكتابة، وكتابة القصة بالذات.
كتابتي للشعر سبقت كتابتي للقصة، ولكنني أسميه شعراً تجاوزاً، فقد كنت أكتب الشعر الموزون المقفى متأثراً بدراستي في المدرسة المتوسطة واكتشفت بعد فترة أنني لن أستطيع أن أكتب شعراً. أيضاً وأعيد مرة أخرى أن الكتابات المبكرة في الشعر سببت لي إحباطاً كبيراً من حيث إن الفترة التي بدأت فيها القراءة لم تكن تتوفر لدينا مجموعة لأعمال الشعراء العرب المحدثين بعكس ما كانت عليه القصة. هذا في البداية، ومنذ أن كتبت القصة توقفت تماماً عن كتابة الشعر.
حين عدت إلى كتابتها فوجئت بمسألة الغموض والوضوح في الفنون عموماً، وقد طرحت هذه المسألة محلياً وبشكل شرس .. ولقد كنت أعيش تحت وهم أن الشعر قادر على التحريك، باعتبار أن الفنون الأدبية والتشكيلية في هذا الزمن لا تستطيع أن تقدم للمواطن العربي فعلا آنيا، وأعترف أن هذا كان فهماً خاطئاً تماماً للفن ولدور الفن، إلى درجة أنني تخيلت أن الشعر من الممكن أن يغير من الواقع العربي، وأن يقلل من هزائمه وانكساراته .. ربما كنت متأثرا بشعر المقاومة الفلسطينية حتى جاءت مرحلة اكتشفت فيها أيضاً أن الشعر لا يمكن أن يفعل شيئاً بمعزل عن وعي المواطن العربي، ولذلك أحسست أن ما كتبته من شعر كان مجرد رد فعل لإحساسي بأن قصصي كانت غامضة، وهذا كان إحباطاً واجهته بقسوة، وخاصة بعد صدور مجموعتي القصصية الأولى.
لقد أحسست أنني وجدت في هذا العالم لكي أكتب .. أكتب فقط. ولا شك أنني حين أفرغ من الكتابة أفكر في القاريء وأتمنى في هذه اللحظة أن تصل بعض كلماتي إلى القارىء، ربما هذا ليرضي بعض النرجسية التي يحملها الفنان، ولكنني حين أكتب أكون مفرغاً تماماً من أية محتويات استقطابية.
أنا أكتب لكي أكتب، ومأساتي الحقيقية أنني أعيش تناقضاً حاداً بين داخلي وبين خارجي، فأنا أحس بأنني أنكسر بدون الفن وأنتصر بالفن.
لآنني رغم صعوبة القصة القصيرة – اكتشفت أنها تلبي لدي الكثير من رغباتي فالقصة عالم حافل بالعديد من التداخلات، وأنا بطبعي شخص متداخل، أنا شخص متشابك، واللغة لا تهمني كناحية لغوية أو مفردية، ولكنها تهمني كاتجاه.
مجلة كلمات العدد الثاني مارس 1984