قصة قصيرة - محمد محمود المرباطي

منذ سنوات بعيدة في ناصية ما من أرجاء هذا الوطن، جرت حادثة غريبة، تسلل رجل غريب خلسة ذات ليلة في جنح الظلام إلى منزل أحد المواطنين. وقتها كانت المنطقة حديثة العمران وتغرق في هدوء مطبق من قلة الناس المقيمين فيها، البيوت المشيدة كانت تعد على أصابع اليدين، تبنى على أراض بحرية وعرة دفنت من مخلفات البنايات المهدمة وما ترميه البلدية فيها من القمامة، الشوارع لم تنشأ بعد وبعض الطرقات المتعرجة القليلة التي لم يمسسها الإسفلت والتي كانت تحفها المطبات وتكسوها الأحجار والرمال المتطايرة هي المنافذ الوحيدة السالكة إليها، الظلام الدامس المخيف سرعان ما يخيم على المنطقة النائية المستسلمة للسكينة والهدوء، لا وجود لإنارة تستدل بها معالم الطريق، والقادم اليها من المناطق الأخرى يجد من الصعوبة الشاقة في الوصول إلى منازل تلك المنطقة الحديثة العمران، ما أتاح لذلك الرجل أن يتسلل إلى داخل فناء ذاك المنزل بسهولة ويسر ومن دون أن يلحظه أحد.

تسلق سور المنزل، كان حائطاً قصيراً في ارتفاعه، لم يجد مشقة في القفز منه إلى داخل الحديقة الخارجية، كان المنزل مصمماً على الطريقة الأوربية الحديثة التي بدأت في الانتشار بعد اندثار المنازل التقليدية التي تمتاز ببنائها المحصن .. مكث في إحدى زوايا الحديقة الخلفية المتوارية عن العيون، اختبأ بين بعض الألواح الخشبية التي ما زالت متبقية من بقايا أعمال البناء التي انتهت منذ فترة قصيرة.

ظل ماكثاً في مخبئه طوال الليل منتظراً خروج الضحية التي كان يترصد النيل منها، بزغت خيوط الصباح الأولى، وسطعت الشمس الدافئة في باكورة إطلالتها، العصافير والطيور المغردة انطلقت من أوكارها من الأماكن البعيدة وحطت في الحديقة وهي تتقافز بفرح بين الأشجار والزهور تبحث عن الماء والكلأ .. تخرج فتاة في العشرينيات من عمرها من داخل المنزل، تمشي بضع خطوات في الحديقة وهي تحمل طفلة صغيرة عمرها عاماً واحداً على صدرها وممسكة بأصابع رقيقة لطفل آخر في الثالثة من عمره، أخذوا يتجولون في الحديقة بين الشجيرات الصغيرة، يلعبون ويغنون ضحكاً مع الفراشات الملونة وهي تطير بين الورود التي تفتحت بروائحها المنعشة، مرحهم العذب لم يدم طويلاً مع اقترابهم من الألواح الخشبية المركونة في نهاية الممر الضيق من الجهة الخلفية لسور المنزل، عند وصولهم إلى جهة تلك الألواح الخشبية، سمعوا صوتاً مفاجئاً يباغتهم وحركة مخيفة من بين الأخشاب، وما هي إلا لحظات وإذا بهم يشاهدون الرجل المختبئ يندفع من بين الأخشاب بقوة ويقفز عليهم على حين غرة، لتتفاجأ به الفتاة مذعورة وهو يشهر سكيناً ضخمة حادة القطع في وجهها محاولاً أن يطعنها بها .. صوب السكينة جهة صدرها إلا أنها استطاعت أن تتحاشى تلك الطعنة المفاجئة وأن تهرب بسرعة إلى جهة أخرى من سور المنزل وهي لا تزال تحمل الطفلة الرضيعة بين ذراعيها، تهرول بكل ما أوتيت من قوة لتحاول دخول المنزل قبل وصوله إليها، الطفل الصغير الآخر كان يركض خلفها وهم في صراخ حاد يستغيثون ويستنجدون في فزع ورعب شديدين عسى من يسمع نداءهم وينقذهم من براثن هذا الرجل الغادر .. تمكن الرجل بعد مطاردة الفتاة من مكان وآخر في أرجاء الحديقة الخارجية المحيطة بالمنزل من جهاته الأربع من أسرها أخيراً وأن يحشرها في زاوية ضيقة في أحد زوايا أركان السور .. هنا وقفت الفتاة متسمرة في مكانها وترتعد فرائصها من شدة الخوف ولم تستطع الإفلات منه فقد حاصرها في مكانها وأحكم الطوق حولها في تلك الزاوية الضيقة وانسدت عليها كل المنافذ للخلاص منه والهرب إلى داخل المنزل حتى أصبحت في مواجهته وجهاً لوجه، توسلت إليه بكل رحمة وشفقة، ورجته بدموع فياضة أن لا يؤذيها ولا يؤذي هؤلاء الأطفال.

نظر في عينيها نظرة فيها من الشراسة القاسية والعنف الشديد، ومن غير أن يأخذ بقلبه شئ من الرأفة والانسانية بها، رفع السكينة إلى أعلى مدى لها حتى تجاوزت قمة رأسه فهوى بها بسرعة فائقة ومن غير أن تخطأ مرماها ليصوبها مباشرة إلى صدرها الرقيق، ولتسقط على الأرض في الحال وهي تتلوى من الألم وليتركها مضرجة في دمائها التي انهمرت بغزارة من جسدها المرتعش، أخذت تنتفض وهي تتلوي بسكرات الموت والطفل الصغير ذو الثلاثة أعوام الواقف بجانبها والمتشبث يثيابها الملطخة بالدماء يحاول جاهدا بقوته الواهنة مقاومته وإبعاده عنها وهو يركله برجليه الصغيرتين وضربه بيديه النحيفتين ليمنعه من معاودة طعنها، أخذ يحرك السكينة في جهة الطفل ليخيفه ويبعده عن الفتاة المطعونة، الا أن الطفل لم يتوقف في مقاومته، الى أن تمكن الرجل منه وقام بتوجيه عدة ضربات بالسكين إليه ليطرحه أرضاً وليجرحه في يديه ورجليه، التفت الرجل نحو الفتاة بعد أن سقط الطفل على الأرض بعيدا عنها، فوجدها ما زالت حية وتنبض روحها بقليل من أمل الحياة المتشبثة بها، الطفلة الصغيرة التى كانت تحملها بيدها اليسرى سقطت بقرب جسدها المرمي على الأرضية التي تحول لون بلاطها الى أحمر قان من دمائها النازفة. الطفلة تبكى بشدة وهي ممسكة ومتعلقة بجسد الفتاة، ينقض الرجل على الفتاة مرة أخرى بسكينته ويطعنها طعنات عديدة ولا يتركها إلا بعد أن تيقن أنها لفظت أنفاسها الأخيرة وهي بجسد ممزق الأشلاء.

تسلق السور وهرب إلى خارج المنزل بعد أن اغتسل من الدماء التى التصقت في يديه وجسمه من صنبور ماء الحديقة، وأخذ يركض بكل قوته في تلك المنطقة الهادئة دون أن يحس به أو يلمحه أحد من قاطني المنطقة، وليتوارى ويختفي عن الأنظار في منطقة أخرى بعيدة.

أخذ الطفل الصغير يقترب من الفتاة ويهزها علها تستفيق إلا أنها كانت جثة هامدة لا حياة فيها. زحف على رجليه ويديه وهو يحبو لعدم تمكنه من الوقوف على رجليه للجروح التي أصابته من السكين، إلى أن تمكن من الوصول إلى باب مرآب سيارة والده الذي كان خارج المنزل مع أمه لشراء بعض الحاجيات، استطاع بصعوبة أن يرفع باب الكراج مسافة بسيطة بيديه المجروحتين والملطختين بالدماء، ونفذ من خلال الفتحة الضيقة التي أحدثها وواصل زحفه حبوا إلى خارج منزلهم حتى وصل إلى أحد بيوت الجيران القليلة العدد، لمحته إحدى جارات منزلهم التي لتوها قطنت هذه المنطقة الحديثة، اسرعت إليه وهي في أشد حالات الذهول والاستغراب من حالته والدماء والجروح في جسده، نطق الطفل أمامها بحروف قليلة غير مفهومة، أدركت الجارة بأن هناك اعتداء قد حصل على هذا الطفل الذي كان في حالة ارتجاف وبكاء، استدعت على الفور رجال الشرطة الذين قاموا بتفكيك حروف وكلمات الطفل المتلعثم في نطقه من حالة الرعب والخوف من جراء ما حصل أمام عينيه البريئتين، ليتوصل رجال الشرطة من تلك الحروف والكلمات القليلة إلى المجرم بعد عدة أيام من التحري والبحث والذي كان عاملاً أجنبي الجنسية، سبق أن اشتغل في أعمال بناء في منزل الضحية قبل شهور مضت، ولأن ملامح وجهه قد تركزت في مخيلته وذاكرته الطفوليتين الحادتين أثناء عمله في منزلهم، فعرفه عندما شاهده وهو يقوم بطعن تلك الفتاة في الحديقة الخارجية، فوصفه لرجال الشرطة إلى أن تم القبض عليه معترفاً بجريمته النكراء لقتله مربية هؤلاء الأطفال الأبرياء الأجنبية، وظلت دوافع جريمته غامضة، ولم يفصح عنها بأي شيء وإن كان يعتقد بأنه أراد أن يقوم بسرقة المنزل في غياب أهله، ولما اكتشفت الفتاة المسكينة صدفة محاولته للسرقة منعته من ذلك وأبلغت كفيلها صاحب المنزل عنه، والذي أبلغ المقاول المسئول فقام بطرده من عمله لعدم أمانته .. فقرر الانتقام منها حقداً وكراهية بقتلها لأنها كانت من نفس بلده ولكنها لم تكن من طائفته العرقية.