جعفر الديري

يحدد الناقد البحريني أ.د. إبراهيم عبد الله غلوم، ثلاث مستويات لتجربة مسرح الطفل في البحرين، الأول المسرح، الثاني التربية، والثالث المجتمع، مؤكداً أنها جميعاً تعرضت لسلسلة من مظاهر التشويه والتدمير، حيث يكشف المظهر العام لصيغتها عن وجود رقابة مشددة تطلقها ذاتنا عليها بنسب متفاوتة.

وبحسب ما جاء في كتابه "الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي"، فإن المستوى الأول وهو المسرح، أكثر المستويات غياباً في تلك التجربة، ويقف وراء ذلك أن أغلب الذين دخلوا تجربة مسرح الطفل ينطلقون من مقولة أو مسلمة أساسية هي أن مسرح الطفل يعني التربية والتعليم أولاً وقبل كل شيء، لافتاً إلى تعطيل هذه المقولة عمل الخيال وتدميره، حيث كرست فكرة الانقسام بين عالم الكبار وعالم الصغار في الإبداع. وكرست كذلك فكرة ضرورة صياغة المعلومات للأطفال قبل صياغة الأشكال والصور بكل ما يتبع المعلومات من زخرفة وإحاطة بأكبر حظ من التأثير، بغض النظر عن دقة هذه المعلومات أو عدم دقتها.

تعطيل الخيال

إن تعطيل مستوى المسرح/ الخيال -كما يرى د.غلوم- بعث الكثير من المشكلات في مسرح الطفل لا تتصل بمجرد سيطرة الجانب التربوي، وإنما بطبيعة الصيغة المسرحية المتغيرة في التوجه للأطفال.

وتوقف عند مشكلتين رئيسيتين: الأولى: النمطية/ وعنى بها صياغة الصراع والشخصيات والأفكار والحلول والمواقف وفق منظومة تختزن الصفات والأخلاق والقيم من خلال تمثيل الأشكال والصور السائدة المستمدة من مواصفات الواقع، وثوابته وما يقدم فيه من الحلول النموذجية أو من الأنماط الأخلاقية التي تقررها فلسفة الصراع بين الخير والشر، مبيناً أن النمطية وجدت في مسرح الطفل قوتها وحضورها من خلال ارتكازها على مصدرين اثنين: التراث الشعبي/ وهو المصدر الذي اعتمدت عليه أغلب نصوص مسرح الطفل، الثاني ثقافة عالم الكبار باعتباره المصدر للحلول الحاسمة، والمرجع الذي يستفاد منه لكل علاج. والصيغة المثالية للعالم المنشود. ولما كان هذا العالم يرتكز في جانب منه على فلسفة الأنماط الأخلاقية "انتصار الخير" تماماً كما يرتكز على سلطة التقاليد والمعايير والقوانين إلخ؛ فقد أصبح مجالاً هاماً لصياغة الأنماط في تجربة مسرح الطفل.

أما المشكلة الثانية، فيوضحها في السؤال التالي: من الذي يكتشف ذاته في تجربة مسرح الطفل نحن –الكبار- أم الأطفال؟ إن أغلب الأعمال المسرحية الموجهة للطفل تذهب عكس ما يتراءى من أن مسرح الطفل هو الحقل الحيوي لكيفية اكتشاف الطفل لذاته أو لشخصيته، فقد غلبت على تجربة مسرح الطفل مقولة عالم الطفل الذي نريده أن يكون دون أن تشترك شخصية الطفل نفسها في وضع هذه المقولة أو صياغة أفكارها.

الاحتفال بالهدف التربوي

وبانتقاله للحديث عن المستوى الثاني وهو مستوى التربية، يقول د.غلوم إنه من غير العسير القول بأن الهدف التربوي احتفلت به تجربة مسرح الطفل كما لم تحتفل بأي هدف آخر، وذلك لسبب بسيط هو أن هذه التجربة لم تكن إلا من صنع عالم الكبار. لذلك ظلت تجربة مسرح الطفل في البحرين والخليج عالة على التراث الشعبي منذ الأعمال الأولى في 1979. حتى لقد شاعات ظاهرة إعادة صياغة حكايات التراث للأطفال، وأصبحت معها هذه الحكايات حقلاً مستباحاً للجميع.

ويضيف: لو أني قمت بكشف مظاهر إلصاق الأهداف التربوية بحكايات التراث في التأليف المسرحي للأطفال لكانت النتيجة تبعث على الهلع. وتدعو إلى السخرية. فإذا استثنيت بعض أعمال مسرحية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة فإن ما يتبقى بعد ذلك لا يعدو كونه اختلاساً ظاهراً من التراث، وسطواً واضحاً على المخيلة الشعبية، لم يكن الجهد فيها يبلغ سوى فكرة إلصاق القيمة التربوية بالقصة الشعبية، ولا يكفي – هنا – القول بفضل الصياغة ما دامت إعادة الصياغة لا تتجاوز مكابدة حجر الكلمات المنضبطة إلى خيال الحركة المشبع بالحياة والحرية.

ويواصل د.غلوم: إن من الجوانب المثيرة للغرابة والدهشة إزاء تجربة مسرح الطفل أن حكايات التراث الشعبي المستلهمة لم تصقل الصفة المسرحية في هذه التجربة بقدر ما صقلت الصيغة التربوية فيها، فالخيال الشعبي لم يستوقف المسرحيين المعنيين بعالم الطفل وإنما المغزى الأخلاقي هو الذي استوقفهم وعزز مقولتهم التربوية. ويبدو أن المضامين والمقولات والموضوعات الأخلاقية التي تتسم بالضجيج والجعجعة أسبق عند المشتغلين بمسرح الطفل أكثر جوهرية من الخيال والأشكال والصور.

غياب المجتمع

إلا أن المستوى الثالث من تجربة مسرح الطفل وهو مستوى المجتمع، يكاد يكون غائباً غياباً مطلقاً في تجربة مسرح الطفل، ولذلك سبب جوهري يتصل بالجانب السلوكي في حياتنا الاجتماعية.

لكن رغم هذا الغياب فإن الصورة التي يجليها د.غلوم للمجتمع في مسرح الطفل، تتمثل في تقاطع ثلاثة خطوط: الأول/ ينبع من كون تجربة مسرح الطفل نفسها تعبر عن أحد خطوط تيار الاستهلاك الفظ في مجتمعنا المعاصر. أو أنها دخلت حياتنا باعتبارها ظاهرة مصاحبة لتغيرات اجتماعية في السبعينيات والثمانينيات. والثاني/ ينطلق من داخلنا نحن الكبار إلى عالم الأطفال ويعني به خط الرقابة الاجتماعية التي نمارسها على الصغار، في المسرح أو في غير المسرح من حقول الثقافة. والثالث/ يرتبط بالأنماط المستمدة من حياتنا الاجتماعية وهي أنماط تقرها تقاليد المجتمع ومعاييره وفلسفته في الأخلاق والآداب الخ.

التحول لظاهرة اجتماعية

ويخلص د.غلوم للقول، بناء على الصورة التي رسمها للخطوط الثلاثة، أن جميع محاولات إبعاد تجربة مسرح الطفل عن حركة المجتمع لم تعمل إلا على تحويل هذه التجربة إلى ظاهرة اجتماعية تختلط بغيرها من الظواهر التي يموج بها تيار مجتمع لم يتجاوز عتبات أبواب المجتمع الحديث ومع ذلك تضج فيه أصوات التحديث وتتقدم خلاله مظاهر الاستعراض المصاحبة لحركة التنمية، متسائلاً: هل ينبغي أن تكون صيغة المسرح ملتزمة بشرط التوازن في حجم المستويات الثلاثة "المسرح .. التربية .. المجتمع"، بحيث يتم التوفيق بين نسب متساوية للمستويات في العمل المسرحي المقدم للأطفال؟ ويجيب: إن شرط التوازن ليس ضرورياً على الإطلاق فهي ليست سوى مستويات واقع مسرحي صنعت تجربة محدودة الإمكانيات، حديثة العهد. ولكنها لاهثة وراء تحقيق شروط على حساب أخرى أو صياغة مستوى على حساب آخر لا من أجل تجريب أو استبصار صيغة مسرحية مرتهنة بشروط الإبداع، وإنما من أجل الاستجابة لسلسلة الرقابة.