عماد المختار
تمثّل عملية "الدمج التربوي" للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة إلى جانب أقرانهم العاديين الأسوياء مسألة مهمة، وأضحت همًّا مشتركًا يتعدى الأفراد والأسر، إلى المؤسسات الوطنية العامة والأهلية التي أعطتها عناية خاصة نفسيا واجتماعيا واهتماما بالغا تربويا وقانونيا، بل أصبحت من المسائل ذات أولوية قصوى ضمن المبادرات العالمية، حيث اتجهت الأمم المتحدة والمنظمة الدولية للثقافة والعلوم والتربية، وكذلك البنك الدولي والمنظمات غير الحكومية نحو التشجيع على عملية "الدمج"؛ لأن مفهوم "الدمج" في جوهره يقوم على خلفية اجتماعية أخلاقية، نابعة من حقوق الإنسان عامة ضد التصنيف والعزل لأي فرد من أفراد المجتمع بسبب إعاقته العضوية، إضافة إلى تزايد الاتجاهات المجتمعية نحو رفض الوصمة الاجتماعية للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. فعملية "الدمج" إذن هي التطبيق التربوي للمبدأ العام الذي يوجه خدمات التربية وسياستها كإجراء يؤكد مبدأ تكافؤ الفرص في التعلم بين الأقران من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة ومن فئة العاديين.
وتعني عملية "الدمج التربوي"، من منظور الأخصائيين التربويين والاجتماعيين، سياسة التطبيق التربوي للمبدأ العام الذي يوجه خدمات التربية نحو تحقيق التكامل الاجتماعي والتعليمي للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال العاديين في الفصول العادية ولجزء من اليوم الدراسي علي الأقل، وهو تكامل مشروط بشرطين متلازمين: شرط وجود الطالب ذي الاحتياجات الخاصة في بيئة صفية عادية وجودا جزئيا أو كليا، وشرط الاختلاط الاجتماعي المتكامل الذي يستوجب في نظر الأخصائيين أن يكون هناك تكامل وتخطيط تربوي مستمر، وفي توفر الشرطين وترابطهما ما يؤشر على تحقق عملية "الدمج التربوي" ونجاح سياستها.
تجربة البحرين نموذجا
بدأت تجربة البحرين في "الدمج التربوي" في العام 2010، من خلال 11 طالباً وطالبة في 3 مدارس، وحققت إنجازات عديدة، كان آخرها نجاح 21 طالباً وطالبة خلال العام الدراسي 2016/2017 في الانتقال الكلي من صفوفهم الخاصة إلى الصفوف العادية، نتيجة ما حققوه من نقلة نوعية أكاديمياً وسلوكياً واجتماعياً.
وأكد وزير التربية والتعليم ماجد بن علي النعيمي أن الوزارة نجحت في احتضان المئات من ذوي الاحتياجات الخاصة من فئات: الإعاقة الذهنية البسيطة ومتلازمة داون، اضطرابات التوحد، الإعاقة البصرية (كف بصر، ضعف بصر شديد)، الإعاقة السمعية (ضعف سمع، زراعة قوقعة، الصم). إضافةً إلى ذوي الإعاقات الجسدية وصعوبات التعلم، ومرضى السرطان والسكلر، وذلك بعد تهيئة مدارس الدمج بكافة الـمتطلبات اللازمة، من كوادر تربوية مؤهلة، ومناهج دراسية وأدوات وبرامج تعليمية خاصة، مع تطوير البنية التعليمية الأساسية بإنشاء صفوف خاصة لهؤلاء الطلاب، وإضافة مرافق وأدوات مساندة لهم في الفضاء المدرسي، ومراعاتهم في الامتحانات والتقويم، كما يتم في بعض الحالات تخصيص معلم لكل طالب.
وذكر وزير التربية أنه في ضوء النتائج الـمشرّفة لسياسة دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس الحكومية، سيشهد العام الدراسي إضافة مدرستين جديدتين لبرنامج دمج الطلبة ذوي اضطرابات التوحد، فضلاً عن دمج مجموعة جديدة من الطلبة الصُّم، ليرتفع عدد الطلبة الـمدمجين من الفئتين إلى 101 طالبا وطالبة، ويرتفع عدد المدارس المخصصة لدمج جميع الفئات إلى 77 مدرسة للبنين والبنات.
وكشف الوزير أن الوزارة ستفتتح صفاً للتوحّد في كل من مدرسة عمار بن ياسر الابتدائية للبنين ومدرسة عقبة بن نافع الابتدائية للبنين، ليرتفع بذلك عدد مدارس دمج هذه الفئة من الأبناء إلى 14 مدرسة ابتدائية، تستوعب 80 طالباً وطالبة من هذه الفئة، وتضم 56 معلماً متخصصاً في التعامل مع هؤلاء الأبناء، مع توفير عدد من العاملين الـمخصصين لرعايتهم.
البيئة المدرسية فضاء الإدماج
تتيح البيئة المدرسية الصفية واللاصفية الإطار المكاني والزماني الملائمين لانخراط ذوي الاحتياجات الخاصة في نظام التعلّم، بوصف المدرسة فضاء عاما وعاديا، تتحقق فيه الاحتياجات التربوية الخاصة واللازمة لهذه الفئة المدمجة، وفق أساليب تعليمية ومناهج علمية ووسائل دراسية تراعي الفروقات الفردية والطبيعية للمتعلمين جميعا، بقطع النظر عن الذكاء أو الموهبة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعي والاقتصادي أو الخلفية الثقافية للمتعلمين دون استثناء. وتقدم لهم أنشطة متمايزة تراعي الفوارق وتحقق نفس الأهداف، ويشرف على تقديمها المدرسون في مختلف المواد التعليمية، إلى جانب ما يقدمه أخصائيو صعوبات التعلم والإشراف الإداري والاجتماعي في هذا الجانب من إحاطة دائمة بالتطور الشخصي لذوي الحاجات الخاصة وعناية متواصلة بالاندماج الاجتماعي طيلة الزمن المدرسي، وهو دمج مكاني مهم، تراه الأخصائية هدى المحمود مهم جدا، حيث قالت: "إن وزارة التربية والتعليم بصدد تعميم تجربة الاستفادة من التجارب العالمية في تهيئة البيئة الصالحة لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة في جميع مدارس البحرين بالتدريج". لافتة أن الوزارة "تخطط لتوفير ذلك في 77 مدرسة حكومية في مختلف المراحل التعليمية، إضافة إلى منح المدارس الخاصة التي توفر خدمات مناسبة لذوي الاحتياجات الخاصة تقديرات وحوافز أكبر، كما يشمل الاهتمام بدمج المدرسات من ذوي الإعاقة في النظام التعليم".
ولكن هل أن هذا الرأي يعني أن البيئة المدرسية هي بيئة مثالية للدمج التربوي حين يوضع ذوي الاحتياجات الخاصة في صفوف تعليمية عادية حين يتفاعل بشكل متواصل مع أقران عاديين؟ أم هي أقل البيئات تقييدا في تقديم إحاطة خاصة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة؟ ألا يمكن وضع الأطفال ذوي القدرات والاحتياجات المختلفة في بيئة متجانسة توفر لهم الخدمات التربوية والتعليمية وتمنحهم الدعم المادي والمعنوي الكامل لتقبلهم الاجتماعي؟
جواب ذلك، حسب الأخصائي الاجتماعي أبو عبدالله أن تجربة الدمج التربوي في المدارس نجحت في إحداث شعور بالتقبل الاحتماعي لمثل هذه الحالات، وهو شاهد على تدافع الطلاب العاديين في تقديم العون المادي والنفسي لهذه الفئة.
وعبر يوسف أحمد وهو طالب بالصف الثالث الإعدادي من ذوي الهمم عن شعوره براحة كبيرة في انتظامه بمدرسة عادية، معتبرا أنه يجد كل الدعم والتفهم لحالته من الهيئة الإدارية والتعليمية وزملائه الطلاب، وأنهم يوفرون له كل الدعم، ما انعكس إيجابا على تحقيق نتائج دراسية جيدة، وعلى تفاعله مع زملائه العاديين واكتساب خبرات منهم.
ويذكر أحمد عبدالله وهو ولي أمر طالب من ذوي الاحتياجات الخاصة عن امتنانه لوزارة التربية على سياسة الدمج هذه، وبقدر استحسانه لكل التسهيلات المشجعة وشكره للتعاون الكبير من قبل إدارة المدرسة، يرى أن بعض الصعوبات تحتاج إلى تذليل، ومنها وسيلة نقل خاصة مجهزة بمستلزمات الإعاقة وخاصة الكرسي المناسب والرافعة لمن هم مصابون بشلل نصفي، إلى جانب ما يخص تعديل بعض المرتفعات وتوفير مكان خاص لراحة ذوي الاحتياجات الخاصة.
وتذليل مثل هذه الصعوبات يراها الأخصائي الاجتماعي أبو عبدالله تحتاج إلى زيادة الاعتمادات المالية الخاصة بفصول الدمج، إضافة إلى ضرورة تخصيص ميزانية خاصة لأنشطة فصول الدمج، مشيرا إلى أنه يفضل أن يكون الدمج جزئيا وليس كليا في بعض الحالات، من خلال حصص الأنشطة الفنية كالرسم، والقراءة والخط العربي والموسيقى وبعض الألعاب الذهنية، حتى تكون البيئة المدرسية الصفية واللاصفية فضاءً مهما في مسألة "الدمج التربوي" المتكامل اجتماعيا وتربويا، في المكان والزمان، بما يوجد في هذا الإطار العام من اشتراطات أساسية في عملية الدمج.
ويضيف أبو عبدالله أنه على مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أن تؤدي دورا فاعلا في تحفيز المؤسسات الأهلية أكثر ليس في عملية تثقيف المجتمع بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة وتوعيته بمتطلبات دمجهم في المجتمع فحسب، وإنما في عملية إنجاح المهمات التي تسعي لتحقيقها المؤسسات العاملة في مجال سياسة الدمج في البيئة المدرسية بوصفها الطريقة المثلي للتعامل مع ذوي الحاجات التعليمية الخاصة لكافة الطلاب بالمدارس العادية، قصد التقليل قدر الإمكان من عزل الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك بدمجهم مع الأطفال العاديين في الفصول والمدارس العادية وتقديم خدمات التربية الخاصة والخدمات المساندة، وهو دمج اجتماعي يساعد طالب الاحتياجات الخاصة على الالتحاق بالأنشطة المدرسية المختلفة الصفية واللاصفية كالتعاون والحلول الجماعية والمشاركة في الرحلات الترفيهية والتعليمية والرياضية، وحصص الفن والموسيقى وغيرها من الأنشطة الاجتماعيه الأخرى. ويختم أبو عبدالله أنه بتوف مثل هذه الاشتراطات تسهل عملية الدمج المجتمعي وتُمنح الفرص لفئة الاحتياجات الخاصة للاندماج في مختلف أنشطة المجتمع وفعالياته وتتيسر مهمتهم في أن يكونوا أعضاء فاعلين اجتماعيين، ما يضمن لهم حق العمل باستقلالية وحرية التنقل والتمتع بكل ما هو متاح في المجتمع من خدمات. خاصة أن الجهات الرسمية في مملكة البحرين أخذت على عاتقها الاهتمام بهذه فئة ذات الاحتياجات، وعملت على دمجها فى المجتمع من خلال إيجاد الحوافز وبرامج إعادة التأهيل وتوفير المعاهد الخاصة وإيجاد فرص عمل مناسبة لهم.
إن عملية "الدمج التربوي" تتعدى كونها سياسة تراعي ظروف ذوي الاحتياجات الخاصة فحسب، ولا هي تعبير عن فلسفة ترفض التمييز بسب إعاقة عضوية،فقط، وإنما هي نظام تعليمي اجتماعي جديد، يعيد بناء التربية العامة والتربية الخاصة، ويوفر كل العوامل المساعدة والمطلوبة وفق استراتيجيات واشتراطات البيئة الطبيعية والعادية التي تنجح حالات الدمج المكاني والتأهيل الاجتماعي، ولا يكون ذلك إلا بالتعاون بين مختلف المؤسسات الوطنية لا سيما أن مملكة البحرين تطمح إلى أن تتحول إلى دولة صديقة للأشخاص ذوي الإعاقة بحلول عام 2030، وذلك عبر سلسلة من الإجراءات الطموحة التي تعمل بها الوزارات والهيئات ذات العلاقة.