د. منصور محمد سرحان
ارتبطت بالشاعر الكبير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة بعلاقات تطورت عبر مرحلتين. تتمثل المرحلة الأولى بمواظبتي على قراءة قصائده التي كان ينشرها في الصحف المحلية والعربية، وما طبع منها في دواوينه التي أخذ ينشرها تباعا دون الالتقاء به. وكنت مغرماً بقصائده العمودية التي تميزت بالفصاحة ومتانة التركيب، وبصدق العاطفة، وقوة التعبير، وجزالة الأسلوب، وتناثر المحسنات البديعية والصور البيانية، مما جعله يعد من بين كبار الشعراء العرب في التاريخ المعاصر.
"أغاني البحرين"
ففي أواسط الخمسينيات من القرن العشرين وبالتحديد في عام 1955م، أصدر ديوانه الأول من "أغاني البحرين" وكانت قصائده مثار إعجاب الأدباء والشعراء، بخاصة وانه تأثر في نظم قصائد ديوانه هذا بكبار أدباء وشعراء العرب آنذاك من أمثال عمر أبو ريشة وعلي محمود طه، وإبراهيم العريض، حيث ضم ديوانه قصائد من الشعر الوجداني والعاطفي والقومي. وقد التزم التزاماً صارماً بالإطار المتعارف عليه بالقصيدة العمودية التي تتميز بإخراج الكلام محكماً متماسكاً رصيناً واضحاً يؤثر في وجدان السامع.
ففي قصيدته "نشوة" نرى ذلك الالتزام واضحا حيث يقول: "سكرنا وما في الكأس شيء من الخمر/ وغنت لنا الأحلام من حيث لا ندري. مباهج تستهوي القلوب ومنظر/ مثير بدا في حلة من سنا البـدر. وقفت أشيع الفكر في كنه ما أرى/ وفي خاطري دنيا تموج من الشعر".
جسد الشاعر الكبير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة مظاهر الرومانسية في معظم دواوينه. وكان لتأثره بشخصية العريض في بداية مشواره ما يثبت ذلك. والمعروف أن أحمد محمد آل خليفة شاعر من التيار الكلاسيكي المتنور وهو نفس التيار الذي انتهجه العريض، كما أنه شاعر رومانسي وهو ما بدأ به العريض شعره في أربعينيات القرن الماضي.
والمتبحر في دواوين الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة يدرك بوضوح بيئته التي عبر عنها تعبيراً رومانسياً وإنسانياً من خلال تجاربه العاطفية. كما أن تأثره بالطبيعة جعله يرسم لنا بريشته الناعمة لوحات فنية رائعة، قوامها جمال الموسيقى ورنينها، ورصانة اللغة وعذوبتها، محولاً بكلماته الساحرة جماد الطبيعة إلى لوحة متحركة متناغمة العناصر.
ونظراً لتأثره بالطبيعة فقد أطلق عليه "شاعر الطبيعة" حيث أن جميع عناوين دواوينه مقتبسة من الطبيعة والتي منها على سبيل المثال: "هجير وسراب" عام 1962، و"بقايا الغدران" عام 1966، و"القمر والنخيل" عام 1978، و"العناقيد الأربعة" عام 1980، و"عبير الوادي" عام 2002، و"أنفاس الرياحين" عام 2003.
لقاء متكرر
أما المرحلة الثانية من ارتباطي بشاعر البحرين الكبير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، فإنها تتمثل في الالتقاء المتكرر بشخصه على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، كنت خلالها حلقة وصل بينه وبين أديب البحرين الراحل الأستاذ إبراهيم العريض. وقد مكنتني هذه المهمة الثقافية الرائعة من لقاء الشيخ أحمد في أوقات مختلفة، في منزله بالجسرة أو في مكتبه بالمنامة، أو أثناء زيارته لي بمكتبي بمبنى مكتبة المنامة العامة، وفي زياراته للأستاذ العريض في منزله.
حرص رحمه الله على إهدائي بعض نسخ من قصائده التي نظمها والمكتوبة بخط يده، وكذلك نسخة من كل ديوان جديد يصدر له، ويحدثني عنه، كما يقرأ لي بعضاً من قصائده. وقد تميزت وتكررت عبارات الإهداء التي يكتبها لي وكنت استحسنها مثل: صاحب المكتبة أو قيم المكتبة أو رئيس المكتبة الحكومية أو ما شابه ذلك باعتباري مديراً للمكتبات العامة بوزارة التربية والتعليم، حيث كان مقر الإدارة بمبنى مكتبة المنامة العامة.
ولما بلغه نبأ وفاة أديب البحرين الأستاذ إبراهيم العريض في 29 مايو 2002 تأثر تأثراً شديداً وجادت قريحته بقصيدة رثى فيها أستاذه ورفيق دربه بعنوان (الطود الذي هوى) وأرسل لي نسخة منها، قال فيها: "أقـول لطود الشـعـر لما تصـدعـا/ أرى الأرض أمست بعد موتك بلقعا. ومات الربيع المستفـيض بـأرضها/ فلا الطير فيها أن تحوم وتسجعا. قضيت حياتـي عند نبعك واقـفاً لأنهل من نبع الرحيق وأكرعا. تذكرت يا أنس المجالس مجلسا/ لنا ضم نورا بالبيان تـشعشعا".
كتاب تذكاري
وعندما قررت اللجنة الأهلية لتكريم رواد الفكر والإبداع في مملكة البحرين تكريمه في عام 2003 باعتباره من كبار الشعراء المبدعين، كنت على اتصال دائم به للتحضير لذلك الحدث الثقافي المهم باعتباري منسق تلك اللجنة. وزودني ببعض قصائده وصوره القيمة المعبرة عن مراحل حياته، وبعضاً من مراسلاته، وطلب مني نشرها في الكتاب الذي سيصدر بمناسبة تكريمه، إلا إننا لم نتمكن من نشر كل ما أرسله من مادة وصور لأن الكتاب التذكاري كان في المطبعة في دوره النهائي، واستطعنا إضافة بعض المواد بالتعاون مع المطبعة.
بقيت مواد أخرى حبيسة في درجي تنتظر اليوم الذي تخرج فيه إلى الوجود. وعندما تنامى إلى سمعي نبأ وفاته قمت على الفور في تقليب تلك المادة والصور، وامعن النظر فيها. وكم سرني اتصال الشيخة مي بنت محمد آل خليفة حيث قالت أنها تنوى إصدار كتاب بمناسبة حفل تأبين شاعرنا الكبير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، تريد تضمينه انطباعات أصدقائه وما يملكون من مادة تخص الشاعر لم تنشر من قبل.
لقد كانت تلك لفتة وفاء من الشيخة مي لشاعر البحرين الكبير، وفرصة لنشر ما املكه من مادة تخص الشاعر لم يتم نشرها من قبل ليطلع عليها الجمهور محققاً بذلك رغبته.
اختارت اللجنة الأهلية لتكريم رواد الفكر والإبداع بمملكة البحرين في عام 2003 الشيخ أحمد لتكريمه رائداً من رواد الفكر والإبداع كما مر سابقاً، حيث نظم حفل التكريم في مساء يوم الأحد 21 ديسمبر 2003 بقاعة متحف البحرين الوطني.
ونظم قصيدة بهذه المناسبة مكونة من 25 بيتاَ، شكر فيها اللجنة قائلاً: "لكم شكري وقد كرمتموني/ فهيجتم من الذكرى شجوني. صنيعكم سأحمله وساما/ أما شاهدتموه على جبيني. وقد أعربت عن شكري بدمعي/ ألستم تبصروه في جفوني".
وقال مناشداً اللجنة: "أنا ذا اليوم حي وهـو أحرى/ لذكري قبل يوم تفقدوني. فما نفعي بتكريم وحفل/ إذا تحت التراب دفنتموني. وكم من شاعر وأديب قوم/ نسوه ولم يكرم في السنين. كمصباح طفته الريح ليلا/ فأظلمت الدروب عن العيون".
قصيدة للقصيبي
دعت اللجنة الشاعر غازي القصيبي باعتباره صديق الشيخ أحمد لحضور حفل التكريم، إلا أنه اعتذر لظروف خاصة وبعث بقصيدة إلى اللجنة مهداة إلى الشيخ أحمد بمناسبة تكريمه وكان لتلك القصيدة صداها المؤثر نظراً لبلاغتها وعذوية قافيتها إلا أن قصيدة الشاعر غازي كان يشوبها التشاؤم. فقد ذكر فيها أسفه على ذهاب الشباب وأيامه الجميلة وحل محله الشيب.
وقد ألقيت القصيدة أثناء الاحتفال بتكريم الشيخ أحمد نيابة عنه وفق طلبه، جاء فيها: "لم يبق في العمر شيء غير ماضيه/ ردى إليه الصبا الريان رديـه. بحرين كان الشباب الحلو ثالثنا/ واليوم ثالثنا شيب أواريه. وكان شعري بحراً في تدفقه/ فصار شعري صخراً في تأبيه. أين الجميلات كان القلب مزدحماً/ بهن يرقصن رقصاً في نواحيه. واليوم أحنو على قلبي وأحسـبه/ وكر العناكب تبنى بيتها فيـه".
ورد عليه الشيخ أحمد بقصيدة مليئة بروح البهجة والمرح والتفاؤل وحب الحياة جاء فيها: "اضحك مع الفجر أن غنت شواديه/ ولا تبالي بعمر راح ماضيه. انظر إلى الأفق والأنوار ضاحكة/ فيه فتبيض بالنجوى لياليه. العمر أن فات يوماً لا يعود لنا/ ولو بذلت الدراري في تراضيه. أما ترى الورد يسرى الطيب من فمه/ إلى القلـوب فتحيينا مجانيه. غازي تراني أحـب العيش مبتهجاً/ بالعمر يطربني بالدهر باقيه. قيثارتي لم تفارقني على ولهي/ بها حياتي وعودي سامر فيه. غازي وأنت بلا شك تميزني/ عن الصحاب وكل فيه ما فيه. إن التشـاؤم لا يأتي لقافلتي/ حتى ولو حدها الطوفان في التيه".