قصة قصيرة - نوال الجبر*

في تلك الظهيرة الملتهبة، تبدو حينها الشمس كأنها قرص مستدير من نار تبعث لظاها في وجوه البشر، كانت وحيدة تقف عند النافذة تبصر شيئاً من أجنحة الشمس، تحبس في داخلها تنهيدة لفرط ما تكدست في روحها أطلقتها للرياح، أزاحت وشاحها عن عنقها، وكلبها بوبي يلعق ساقها المكشوف، سقطت على سريرها الأبيض، وحده بوبي يحيط جسدها بقفزات توحي لهما بحالة استنفار في تمضية الوقت من أجل أن يبدد صمتها الهش، خرجت للشارع تاركة خلفها الباب الأبيض مفتوحاً على كل احتمالاتها. في آخر المنعطف كان هناك فتى جاث على ركبتيه ومنحن للأسفل، يكاد يركز عينه في ثقب صغير في الأرض ليتلصص على شيء ما، اقتربت وبوبي يسابقها نحوه، وحين دنا منه بوبي جارفاً جسده على الأرض، صرخ بكلمات بذيئة، ثم غادر المكان بعيداً.

ذلك اليوم حينما ذهبت بسيارتها مع سائقها الأجنبي وكلبها بوبي، وهو يوم استثنائي، توقفت شاحنة الحلويات الضخمة في الشارع تماماً قبالة شجرة السدر. تلفت الكل نحو الشاحنة، توقفت سيارتها قبالة الشجرة، وسيارة جابر توقفت قبالتها، وهو طويل القامة قليلاً، لون الشمس بدد بياض بشرته لسمرة، فزع الكلب بوبي وولى هارباً من صرير مكابح الشاحنة المقاربة لهم. فتحت لهم البوابة معاً نحو مصنع الحلويات. كانت تدرك أن شيئاً جديداً ينتظرها، وهو تراجع إلى الخلف خطوات قليلة، بعد أن تركت في يده شيئاً من جنونها الأعظم وأهداها علبة من العلكة ذات الزيت المتطاير بالنعناع الذي يفوح منها، وقف على عتبة الباب الخلفي وفمها يستدير من العلكة ترقبه وتترك مبسمها في عينيه. كان يرقب داهشاً جسدها النحيف الذي تغطيه عباءة سوداء، أمسكت يده المرتعشة بمصراع البوابة الصدئ. تعرقت كفاه، حينها شد نفساً وهي تنظر لما التمع من بؤبؤ عينيه خلف نظارة شمسية سميكة، أغلق الوافد البوابة لتنتشر العربات نحوهما مثل نملات تجتمع على قطع سكر منثور، وكأنها سليمان الذي جاء ليحطم رؤوس النمل الزجاجية هي والرجل الوسيم الذي إلى جانبها.

أشار لهم الشاب سائق الشاحنة، بعد أن نزل ووقف ناحية الشاحنة ليفتح بابها الخلفي، بأن يعيدا فتح البوابة لحمل الصناديق الكرتونية للحلويات، في اللحظة التي حاولت أن تبدو عند الباب الحديدي الصدئ غير قادرة على الصعود ليواسي يدها في أن تباشر بدلال الصعود أمامه خشية أن تقع وهي ترتدي حذاء مخمليا أسود، بوبي تراجع بعد أن رأى الوافد الفلبيني يلاعبه وظل في حديقة صغيرة منزوياً على شيء يأكله.

أمسك بكفها جابر مصافحاً لها، والرجل من خلفهما آت، أطلقت يدها عن يده، ابتعد هو الآخر عنها كما كانا أول مرة لا يعرفان بعضهما، اقتربت من مكتبه الذي تكدست خلفه الأوراق، سحبها من ذراعها إلى ركن الجدار المظلل بشجرة السدر، وهي تطل على مشهد خرافي. شد الزجاج للأعلى ليفتحه بقوة وهو يشرف على دهشتها فاغرة فمها. جابر خلفها على الكرسي يراقب كيف قرب وجهه من وجهها.

نظر ملياً في عينيها الساحرتين، ابتعد على مكتبه وهي تتأمل المشهد من أعلى للمصنع، بوبي طرحه الوافد أرضاً ليلاعبه أمام أنظار سائقها الخاص، العمال، وسائق الشاحنة، تضحك لتنظر خلفها للوحة بيضاء، تنزل من الأعلى كما لو كانت تنزل من طائرة علوية من السماء، ثم صور للحظات وقوفها أمام البوابة فدخولها إليه وبعض اللقطات التي مرت سريعاً احتبست في رئتيها، خوفها من أن كانت هناك لقطات جمعتها مع الوسيم وهي تشد بعنف على يده وأخرى له وهو يتابع صعود جسدها على السلم الداخلي.

"اللعنة"! قالها جابر مثلما قالتها هي الأخرى بصوت خفيض يملؤه القلق. الصور تتهادى بشكل طبيعي لا يبدو أن عمرا صاحب المصنع فهم الموقف كما كانا يشعران بذلك! بعدها أتت صور لبعض لوحاته الصارخة، اقتناها من مدن عربية أثناء زيارته لها، تعاود النظر للساحة الأمامية للمصنع في وقت قياسي. اعتلوا خلفية الشاحنة، ينزلون صناديق كرتونية عبئت على وقت طويل. إفراغ حمولة شاحنة أكثر أهمية من لقطات عشيقين تصيدتها كاميرات المصنع قبل دخولهما لمكتب صاحب المصنع. أغلقت النافذة ومازال إفراغ الشاحنة من العمالة مستمراً. أشار لها بالجلوس على كرسي من جلد أسود على أطرافه وشاح من الوبر الأبيض، تحسسته بكتفها العاري بعد أن نزعت عباءتها وعلقت على وشاج خشبي معتق، جلسا وعمر يراقب فتنتها ويصدر الأوامر بإحضار كوب من القهوة الإيطالية. بينما هي وهو اختلسا النظر ناحيته مصدرين ضحكات مكتومة بين الفينة والأخرى.. يعود للجلوس على كرسيه، يفرد ساقيه أسفل المكتب، كان هو الذي يندفع نحوها بالنظر إليها وهي تقدم نفسها بشكل بسيط.

نظر إليها وهو يقرأ في تقديمها عن ذات بسيطة شيئا من الاستعلاء، بل تسكنها روح بورجوازية، اقتحم فجأة المكتب ثم قدم لها قهوة إيطالية رجل يعتمر قبعة، تشاغل بالنظر إلى "التي بوي" –عامل القهوة والشاي- بينما هي نظرت إلى ساعته، كانت لوحدها تقدر بثروة كاملة لا تحتملها أحلامها ذات الجيوب الفقيرة. كبيرة ويلبسها في معصمه، تحيط طرفها سلسلة لمعدن يتوج بماركة عالمية، إنه يحمل ثروة وطموح الفقراء في يده. كان كلما نظر إليها ليتطلع إلى الوقت، لمع بريقها في عينيها، ثم كانت فرصة سانحة لتلصص على الساعة المذهبة التي كانت عقاربها تشير إلى أرقام رومانية لا تدركها أبداً.

خلف ابتسامة مزيفة قدم نفسه بأنه رجل يعانق أحلام الفقراء ومعاناتهم، لا شيء من ذلك يبدو عليه، قبيحة مشاعرها نحوه وهي تتذكر الشاعر السعودي غازي القصيبي وما كان يقوله حول معاناة الفقراء إنها الشيء الوحيد الذي لا يملكه الشعراء ولا حتى هو، المعاناة تخص الفقراء وحدهم، والشعر بلا معاناة ليس شعرا، يقول ذلك رحمه الله وهو يدرك أن المعاناة الشيء الوحيد الذي لا تعرفه هذه الوجوه، ولا تناصفه مع الفقراء. يطرق باب المكتب وتقدم مباشرة منه سائق الشاحنة، طالبا منه بعض الأوراق ليغادر سريعا. توقف جهاز العرض عن العمل ليكتسي سوادا وترتفع اللوحة للأعلى، يراقبون المشهد عن كثب. حاجز من صمت ثقيل تتبادله أعينهما. قام وابتعد خارج المكتب، نظرت إلى جابر وهو يتبعه ويغلقا خلفهما الباب، لتأتي مسرعة وتتلصص.

قال له جابر:

- اتركها .. إنها في حمايتي!

قال عمر صاحب المصنع وقد عقد حاجبيه:

- ما سر الاهتمام؟

قال جابر:

- لا أحتاج مبرراً لذلك.

عادت لتجلس في مكانها مطرقة التفكير في شعور جابر نحوها، ما الذي يرغمه على قول ذلك؟ تغضن وجه جابر، فكر بعمق وهو يرمي بنظرات هائمة كأنه في الحب ولد هذه اللحظة، يتعرف على نفسه عاشقا لأول مرة. استقر وراء الحدة في الحديث حب لا يقبل المناصفة. انسحب عمر خارج المكتب حين تلقى اتصالاً يدعوه خارج المصنع.

- مضطر أن أغادر .. اعتذر منها .. سأعود عند التاسعة مساءً.

عاد جابر إلى المكتب توقف عند النافذة. بدا أنه يسير سريعا في اتجاه النافذة، وهي تنظر بغرابة له، ترك عمر المصنع وركب سيارته، وقبل أن تتحرك نظر من النافذة حين أوشك أن يختفي، تلفت ناحيته ليرمق جابراً بنظرة اختزلت حقدا مرا ولد حينها.

نحو الشارع بعيداً وقفت، توجهت نحوه:

- أين ذهب عمر؟

- لديه موعد غير قابل للتأجيل .. يعتذر منك ومني .. ربما يعود عند التاسعة مساء.

- ماذا سنفعل طوال هذا الوقت؟

- ربما نأكل شيئاً .. هناك مطاعم قريبة من منطقة المصانع .. هل ترغبين في أكل معين؟!

بصوت مرتفع:

- أرغب بحمام محشي.

بدهشة ومبتسماً:

- حمام محشي!!

طلب من أحدهم أن يأتي إليها بما طلبت عبر الهاتف، وقفت بجانبه، وضعت يدها على كتفه، توقف لتبعدها عنه، ثم احتضنها بكلتا يديه على صدره، توقفت غير قادرة على الحراك أو مقاومة شعوره تلك اللحظة، احتضنها بخفة كأن سحابة مسترخية لبست روحها المعلقة على صدره، جلست على كرسيه، تأملها كثيراً، مسح شعراتها المتطايرة على وجهها، وهي تنظر إليه ، تجمدت مثل الشمس نفضت غضبها حنق الأحلام والأيام، تعرت مثل غيمة ووهبت عينيها للحب فأغلقتهما للتمكن من الإصغاء إليه دونما خوف أن توضع في موقف هش.

الحب لا يمنحنا التواضع، هناك عاطفة داخلنا تحمل أجراس السماء، تقرع لنفهم أن شخصا أمامنا لا نعرفه يملك كامل الأحقية في أن تفتح قلوبنا للحب، مهما كانت لحظاتنا الإيمانية تحوي صياغة مبالغ فيها، وألا نتعايش بشكل مفرط في الجدية.

أعني بذلك أن المحب يميل دائماً إلى الجهل بالحب، وأن لا يحمل على سيف رفضه أحكاما مسبقة نحو الآخر، وهو لا يدركها أبدا. تبدو تلك اللحظة الأولى حين يتشكل الإيمان.

- هل تثقين بي؟

يبدو لي الأمر هنا كما لو كان علي التخلي عن شيء ما! هو سؤال ينتظر مني إجابة مختلفة ومن لا ينتظر ذلك، هذا يعني أنه لم يسأل بشكل حقيقي!.

أسدلت الشمس لونها الآخر، اكتحلت عيونها بسواد السابعة مساءً، جلست قبالته حافية القدمين على أرض خشبية، الحمام المحشي أمامهما، أكلت من يديه ما لم تأكله بشهية مفتوحة من قبل.

نسيت عمر كما نساه جابر، خرجا من المصنع، عادت لمنزلها ووقفت خارج النافذة في محاولة للانفتاح على خطابها الداخلي نحو ما حدث، والإمساك بالشأن الخفي لما جمعهما معاً، وفهم الرغبة للاقتراب أكثر نحوه ومعرفة إن كان هو الآخر يجد ذات الرغبة داخله.

دخلت منزلها فيما بوبي يتبعها نحو كوخه الصغير في الحديقة، أغلقت النافذة تنتظره على شمعة متقدة.

*كاتبة سعودية