تقى المرسي*

الثقافة لغة هي الشحذ والتهذيب في معناها المادي، ثم الوعي والفهم والإدراك في جانبها المعنوي، وقد جاء المعنى في بعض المعاجم العربية مرادفاً للذكاء، وهذا يقودنا إلى أن كل الوسائل التي تؤدي إلى هذه المعاني المعجمية يمكن أن تدخل ضمن إطار الفكرة الثقافية، أما الثقافة كمفهوم معاصر فهي تغيير في المفاهيم بما يؤدي إلى تغيير في السلوك والواقع والرؤى الاجتماعية والإنسانية التي تحكم المجتمعات المعاصرة، والهدف الرئيس من الفكرة الثقافية هو هدف تنويري عقلي في المقام الأول، يليه الهدف الذي يؤدي إلى تغيير في سلوك الفرد بما يتواءم مع التغيير العقلي، بداية من الذوق، ومروراً بالوعي والمشاعر والعواطف الإنسانية إلى أن نصل إلى الكل الجامع الذي يمكن أن يعبر عن الفكرة الثقافية، وهي عملية التحضر الإنساني بما يجعل حياة الإنسان قابلة للتجرد الفكري والعلمي تجرداً يتيح للإنسان حياة جديدة.

من هذا المنطلق يمكن أن نعد الفكرة الثقافية فكرة وطنية الهدف، منها تحويل المجتمع من صورة تعتمد على العشوائية في المفهوم والسلوك إلى صورة أخرى تعتمد على الثقافة والعلم ومفردات التنوير، ومن هنا يمكن أن تكون الفكرة الثقافية مرادفة للفكرة العلمية، ليست مرادفة للفكرة المعرفية، لأن المعرفة ما هي إلا جزء صغير من الفكرة الثقافية، وبالتالي ليس كل حامل للمفاهيم المعرفية بالضرورة يكون حاملاً للمفاهيم الثقافية، وعلى عكس ذلك يمكن أن يكون الفرد فاقداً لكثير من المعارف والعلوم أيضاً وبرغم ذلك فهو يطبق المفهوم الثقافي، وعلى سبيل التمثيل ننظر إلى بعض الشخصيات الأدبية التي تنتمي إلى الواقع، والتي لا تحمل أفقاً معرفياً على أنها شخصيات مثقفة تحقق معنى الوعي والفهم والإدراك والذكاء الاجتماعي والإنساني الذي يحدث التغيير في الواقع المعاصر.

فالنظر في شخصية أدبية مثل شخصية رواية الوتد لخيري شلبي، أقصد الشخصية المركزية في الرواية وهي شخصية الحاجة فاطمة تعلبة، وكيف كانت تحقق المفهوم الثقافي على النحو التالي: هي على وعي بكل مفردات الحياة الاجتماعية، هي التي تصرف الأمور المعيشية لكل من حولها، هي صاحبة المشورة والرأي، السلوك عندها مقدم على الكلام، وتستطيع أن تحول في المفاهيم والإدراكات.

وبهذا لا يمكن القول إن الفكرة المعرفية مرادفة للفكرة الثقافية، فالأخيرة هي الإطار الكلي الذي يضم عدداً من أدوات التحول الاجتماعي بداية من: المؤسسات الثقافية، المؤسسات العلمية والتعليمية، المؤسسات الدينية.

ومن هنا نصل إلى الجزم بأن الفكرة الثقافية فكرة وطنية وعلمية ودينية وأخلاقية وسلوكية في آن واحد، يشترك في تقديمها وتدويرها كل مؤسسات المجتمع المدني الحكومية منها والأهلية.

التعليم والثقافة

في الوقت الذي كتب فيه د.طه حسين لم تكن المؤسسات الثقافية الحالية موجودة بالشكل القائم، وكانت وزارة الإرشاد القومي تقوم بهذا الدور من خلال المؤسسات التعليمية، والأخيرة كانت لا تزال في طور التكوين الوطني، سواء الجامعة أم المدارس أم المؤسسات العلمية، وبالتالي فإن كلمة ثقافة في الكتاب كان يراد بها كل الأفكار العلمية والعملية والفكرية التي تؤدي إلى تطوير المجتمع، وهذا يعني أن مفهوم الثقافة في ذلك الوقت يشير إلى: أولاً: التنوير، ثانياً: الأفكار والأيديولوجيات، ثالثاً: العلوم المختلفة، رابعاً: الحضارة الإنسانية.

ولذلك نجده يعقد فصولاً في بداية الكتاب عن: العقل المصري والعقل اليوناني وتأثر كل منهما بالآخر، العقل الإسلامي والعقل الأوروبي، مسايرة الإسلام للحضارة، ضرورة الاقتصاد، مهمة التعليم.

فهو يساوي بين الأخذ بأسباب التحضر والتنوير في العقل اليوناني الذي قدم للعالم مبادئه الفلسفية الأولى، وعقل المدرسة المصرية التي قدمت للعقل اليوناني آنذاك أدوات ومفاهيم علمية وفلسفية، وأن العقل العربي ليس متخلفاً عن العقل الأوروبي، بل هو سابق عليه، ومؤثر في كثير من العلوم التي استهلكها العقل الأوروبي، هذا المهاد ليؤكد أن الأخذ بالعلوم ليس له علاقة بتقدم عقل على عقل، ولا عنصر على عنصر بشري وإنما بالإرادة والمفاهيم والسعي إلى تحضر المجتمع بكل الوسائل العلمية المتاحة، والتي يمكن أن تكون نتاجاً حقيقياً للمفاهيم والأفكار الثقافية.

مهمة التعليم ومهمة الثقافة

توغل الكتاب في فهم أهمية التعليم الأولي باعتباره الخطوة الأولى التي تسهم في بلورة عقل الإنسان، وتحدد قدراته المختلفة قرباً وبعداً من الفهم الواعي والإدراك الخلاق لكل مفردات الحياة الإنسانية، وقد فطن د.طه حسين في ذلك الوقت يعني قبل ثمانية وسبعين عاما من الآن – نشر طه حسين كتاب مستقبل الثقافة في مصر 1938 – فطن إلى أهمية التعليم بكل مستوياته العامة والمهنية، بل كان يرى أن التوسع في التعليم العام بلا خطط منهجية يمكن أن يؤدي دوراً غير المنوط به؛ لأن التعليم لا تقدمه الدولة لمجرد التقديم، وإنما لأهداف عدة يمكن ردها إلى تحضر المجتمع، ومسايرة العصر، وكان الهدف القومي/ الوطني ولا يزال هدفاً جوهرياً في حركة التعليم في مصر والعالم العربي، وتأتي بقية الأهداف تابعة لهذا الهدف، فالتعليم من وجهة نظر طه حسين: ذو هدف وطني، يليه الهدف العلمي، يليه الهدف الحضاري.

بذلك يمكن أن نقسم المفهوم الثقافي في كتاب مستقبل الثقافة في مصر إلى المفاهيم الثلاثة السابقة؛ لأنه كان يرى مكانة مصر أعلى من أن تكون دولة فقيرة، أو مهزومة في أي جانب من الجوانب الإنسانية، كما يربط طه حسين تقدم التعليم في مصر بالديموقراطية؛ لأن التعليم الأولي هو الذي يكرس للمفاهيم التي تعتمد عليها الفكرة الثقافية والأفكار المصاحبة لها: مفهوم الوعي، مفهوم الفهم، مفهوم الإدراك.

ولتحقيق ذلك يرى طه حسين أن الاقتصاد في الإنفاق جزء من القيمة المعرفية والإنسانية؛ إذ يقول: "فليس المهم أن يكون البناء أنيقاً، ولا أن يكون الأثاث حديثاً، وإنما المهم أن يكون البناء مستكملاً للقسط المعقول من الشروط الصحية، وليس على الدولة أن يكون البناء والأثاث متواضعين".

ثم يدخل المؤلف في لب الموقف التعليمي، والذي يساوي بينه وبين الموقف الحضاري والتثقيفي في مواضع كثيرة من الكتاب، فيركز على: تعليم اللغة العربية، تعليم اللغات الأجنبية، إعداد المعلم للقيام بمهمته، التخصص في المادة، الاهتمام بالتعليم العالي، الموازاة بين التعليم الديني في الأزهر وللأقباط، عدم حصر الثقافة على التعليم والمدارس والجامعات.

وهو بذلك يقدم الفكرة الثقافية المعاصرة ومفرداتها مجتمعة من أجل الوصول إلى القيمة الإنسانية المطلوبة، ويريد توسيع المفهوم الثقافي ليشمل كل مفردات الواقع، وكل مؤسسات الدولة، وكل أفرادها في آن واحد؛ لأن اقتصار المفهوم الثقافي على مؤسسات بعينها لا يمكن أن يؤدي دوراً فاعلا في أي مكان أو زمان لأسباب عدة: أنه لا توجد مؤسسة واحدة - مهما كانت إمكاناتها المادية أو البشرية - يمكن أن تقدم الفكرة الثقافية؛ لأنها تختزل الثقافة آنذاك في مفاهيم محددة، أن المؤسسة الواحدة أحادية الرؤية، أن الفكرة الثقافية متعددة المستويات والجوانب، أن الفكرة الثقافية عامة تشمل في جوهرها أفكارا مجتمعية مثل: المؤسسات الاجتماعية، والدينية، والتعليمية، والأهلية، والنوعية.

حتى نصل بالطرح الثقافي إلى علاقة أساسية بين المفاهيم التي تتبناها، والمفاهيم المؤسسة للمجتمع، مثل: الاقتصاد، والتجارة، والصناعة، لأنه من دون تأسيس ثقافي شامل للمجتمع لا يمكن أن تنجح هذه المؤسسات لاعتبارات عدة: الأول: أن المفاهيم الثقافية هي الضامن الأول لبقاء غيرها. الثاني: تقديم الثقافة ليس بكونها أفكاراً نظرية فقط. الثالث: تقديم الفكرة الثقافية على أنها مرتبطة بالسلوك الإنساني في كل مستوياته وأهدافه.

ويوجه الكتاب إلى عملية محورية في فهم الثقافة باعتبارها فاعلة في الكشف عن نقاط الضعف والقوة في أي مجتمع، هذه الجوهرية نجدها في الفصول التي عنونها المؤلف بـ:"التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها"، "أتوجد ثقافة مصرية، وما عسى أن تكون؟"

"حلم وأمل"

هذه الفصول التي ختم بها المؤلف كتابه تضعنا على أهم ما يواجه الثقافة الآن، وهو أن المؤسسة الواحدة والمنوط بها تقديم الفكرة الثقافية مشتتة إلى درجة كبيرة كالآتي: الهيئة العامة لقصور الثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، الهيئة العامة للكتاب، دار الأوبرا وغير ذلك.

وكلها تعمل بشكل منعزل، وبمفردات وبرامج مغايرة تماماً عن بعضها البعض، لدرجة التناقض الحاد الذي يوجد في كل الفعاليات، إضافة إلى عدد من الاعتبارات الأخرى ترتبط بالمفاهيم الثقافية: الفهم الخاطئ لمفهوم الثقافة، تقديم الثقافة للمثقفين، الثقافة ليست برامج جوهرية، الثقافة في أيدي غير المثقفين، الشللية التي تقضي على أية منجزات حقيقية.

* كاتبة مصرية