د.فهد حسين

من قرأ كتاب "ألف ليلة وليلة" وعن أي طبعة كانت فسيجد الحكايات الكثيرة والمتشظية والمتداخلة وذات الغرائبية وسيعرف أنها حكايات احتضنت الأحداث والأشعار والمواقف والقصص والحكم والأمثال والعبر والتجارب وخبرات الناس والشعوب التي تأخذنا إلى الماضي والتاريخ، والتراث والإنساني الأدبي والثقافي والجغرافي، وإلى تلك العادات والتقاليد والأعراف التي كانت تمارس بين البشر آنذاك. والحكايات نفسها التي جاءت على لسان شهرزاد بوصفها الراوي الرئيس، فهي تنقل الحكايات شفاهية إلى الملك شهريار، فهي تسرد أخبار رجال الدول والملوك والوزراء وحاشيتهم، ومن يرتبط بهم من عامة الناس، ورجال الدين والفقهاء، والحكماء، والأطباء، والشعراء، والصناع، من الرجال، وكذلك النساء اللواتي كان حضورهن توضيحاً لطبيعتهن ودورهن في الحياة العامة والخاصة.

أصل مضطرب

كما ذكرت الحكايات ما له علاقة بالحيوانات والمخلوقات الأخرى، أي تحكي عن الإنسان وما يعترضه في حياته من بؤس وشقاء ومحن، وكيفية التخلص منها عبر قوى خفية أو غريبة. كما تتناول كثيراً من القيم الإنسانية لكي تقدم درساً للسلوك الإنساني، وفي الوقت ذاته تحكي عن الجن والعفاريت والخوارق بأسلوب شائق عجائبي بغية الكشف عن طبيعة التعامل الإنساني من جهة، وتلك الممارسات والأفعال والأقوال التي تسيء إلى تلك القيم والمبادئ والإنسان معاً، وتعمل على تدميرها مادياً ومعنوياً من جهة أخرى، وكذلك عن حياة اللصوص والسراق وأصحاب السوابق من المحتالين والقتلة، وعن ذوات المصالح الشخصية، ولكن كل الحكايات، وفي أية طبعة كانت، ليس لها أصل ثابت وواضح، أي من هو مؤلف هذه الحكايات، بمعنى ليس لها كاتب معروف، كما أن شهرزاد نفسها وهي تسرد الحكايات لم تشر إلى كاتبها إن كان فرداً أم مجموعة من الكتاب، وعلى رغم ذلك فهناك تكهنات ربما غير دقيقة تشير إلى من كتب هذه الحكايات، وأصلها، حيث يقال إن أبا عبدالله محمد بن عبدوس الجهشياري من أصل فارسي، وصاحب كتاب الوزراء هو من قام بتأليف الكتاب، ولكنه لم يكمله لأن المنية عاجلته، إذ أنهى منه ما يقارب 480 ليلة، وهناك من يميل إلى أن أصلها هندي مع وجود بعض الفضل للتراث العربي والفارسي - كتاب ألف ليلة وليلة، ص6-7.

حكايات منقولة

ونعتقد بأن هذه التكهنات ضعيفة، بل لم يؤكدها أحد من الباحثين قديماً أو حديثاً، وشهرزاد نفسها لم تبتكر الحكاية وإنما هي ناقلة لها بدليل قولها حين تبدأ بسردها "يحكى أو بلغني"، وهذا يؤكد أن كل الحكايات التي سردتها لشهريار طوال الليالي كانت حكايات في الأصل غير مبتكرة بحسب قولها، بل ليست من متخيلها أيضاً، لذلك فمهمتها محصورة في طريقة السرد، وفنية الرواية، نسج الحكاية باللغة، وطالما أن شهرزاد ليست صانعة هذه الحكايات، فيعني أنها ليست الراوية الأولى لها، وإنما هناك راو سواء أكان عبر الكتابة قبل حكايتها لها، أم إنها سمعت هذه الحكايات من مصدر شفاهي آخر، أم هي من قامت بقراءة هذه الحكايات المسطرة في الكتب، ومهما كان استقبالها للحكايات، فهي تعتبر الراوي الثاني، أو لنقل راوية من الدرجة الثانية، وشهريار ليس هو المتلقي الأول، وإنما هو الثاني.

أزمنة متعددة للحكايات

وهنا من يرجح أن شهرزاد استقت هذه الحكايات من الكتب والمصادر والمراجع التي تقارب الألف الموجودة في خزانة والدها، وبهذا الترجيح فهي أخذت الحكايات مدونة وليست شفاهية، وحين النظر إلى طبيعة الزمن وعلاقته بالحكايات نجد هناك أزمنة متعددة، وليس زمناً واحداً، وهذه الأزمنة تتمثل في زمن شخصيات هذه الحكايات، وزمن حدوث الحكايات، وزمن سرد الحكايات قبل كتابتها في الكتب المخزنة بخزانة الوزير أو خزانة شهرزاد، وزمن كتابتها، وزمن قراءتها من قبل شهرزاد، وزمن سردها من قبل شهرزاد نفسها، وتلقيها من قبل شهريار، وزمن كتابتها ونسخها من قبل النساخ، وزمن قراءتها بعد طباعتها وتداولها بين الناس الذين تختلف أزمنتهم، وزمن تعدد القراءة من قبل القارئ الفرد.

نصوص ثقافية

وأياً كانت هذه الحكايات، فهي إرهاصات أولى لفن الكتابة السردية عامة، والروائية بشكل خاص، بل نعتبرها نصوصاً ثقافية وليست أدبية فحسب، لذلك هي نصوص مفتوحة غير مغلقة في شكلها، وفي دلالاتها وتراكيبها، وفي سياقاتها المنفتحة على نصوص أخرى، فالحكاية الواحدة لم تحصر نفسها بنفسها، وإنما تنفتح على نص آخر، والآخر يذهب بعيداً لنص ثالث، ثم العودة إلى النص الأول، وهذا الانفتاح هو انفتاح سياقي متعدد نحو معارف متنوعة، وأنساق مختلفة، ثقافية ودينية واجتماعية وأخلاقية وجغرافية وزمانية، ونؤكد على ثقافيتها وأدبيتها في:

1- حكايات داخل ثقافة معينة، وبأزمنة معينة، ولها القدرة على استحضار ثقافات بعض المجتمعات، وعلاقاتها الاجتماعية والإنسانية وظروف واقعها المعيش.

2- ولغة الحكايات تبرز مدلولات ثقافية تسهم في تمظهر قيم إنسانية معنية.

3- وكذلك احتواؤها على الشعر والحكم والأمثال، وهذه قيم ثقافية.

4- اهتمام هذه الحكايات على كشف زيف المجتمع أكثر من الاهتمام ببناء نص لغوي وأدبي، وإن كان يتمظهر ذلك بين الحين والآخر من خلال اللعبة اللغوية، كما في المقامات التي كان هدفها نقد المجتمع.