د. محمد زيدان
السرد هو صورة لتفعيل حركة الزمان والمكان في ارتباطهما بالذوات والفضاءات والأشياء، بداية من الماضي الذي يعد تراثاً ومروراً بالآتي وانتهاء بالزمن الغيبي الذي يشكل رؤية الذات في احتوائها لعناصر البناء في النظرية السردية؛ وسواء كان فاعل الحركة هو السارد لها في شكلها الحاضر أم كان الراوي الحاكي لها، أم كان هو المخبر عن الراوي، بمعنى أن يقدم السرد صوتاً ثالثاً ضمن المنظور الحكائي؛ وربما يتحول الفاعلون في السرد الحكائي رواة بعد أن يترك التشكيل لهم مساحة ليقوموا بدور آخر أو يتبادلوا الأدوار داخل حلقة البناء السردي، وهذا يشكل بدوره فرصة للحكاية ليتعدد في داخلها أصوات الرواة، كذلك يمكن أن يتحول السرد إلى بلاغة فعلية للموقف إذا استغل الراوي الصور المختلفة لعناصر البناء الحكائي، وليشكل بها رؤية فنية مثل استخدام الذوات محل الرموز التي تمثل القيمة أو استخدام التراث بما يحمل من إشارات وشخصيات تمثل في حينها رؤى فنية وتمثل في الحاضر رؤى تتماهى أو تتباين مع رؤى السارد المعاصر.
تجليات الفن المعاصر
هذا الاستخدام لأشكال الرواية يؤسس في النص الحديث لوضع استبدالي لتجليات الفن المعاصر حتى يقوم بدور ما في رصد بلاغة مغايرة تتقاطع في بعض أطرافها مع البلاغة التقليدية وتستمد منها روحها، ولكنها تصلح لتأسيس رؤية جديدة كلية لنص أدبي يتأسس وفق معايير مختلفة، هذه المعايير تتلاقى في طروحاتها النظرية مع التشكيل السردي أو مع تراسل الفنون أو مع استبدال المعايير الجزئية في البلاغة العربية بمعايير كلية تصلح للنص الجديد.
من هذا المنطلق يمكن أن نطرح ثلاثة منظورات حكائية تؤسس لرؤية بلاغية داخل النص من خلال علاقاتها بالمكونات الأساسية للحكاية، وكذلك بالسياقات التي تطرح نفسها كبديل عن الرؤية الجزئية للمنظور اللغوي، وهي: أولاً: المنظور المؤسس للنص. ثانياً: المنظور المكون للنص. ثالثاً: المنظور المؤول للنص.
قد تأتي هذه المنظورات متحدة لتعطي صورة كلية للسرد، وقد تأتي منفصلة لتعطي صورة جزئية، وفي هذه الحالة فإن عملية التأويل تختلف من عنصر إلى آخر بحسب ارتباطه بالشكل الحكائي.
إن ارتباط هذه المنظورات بالذات أو الشخصية سواء كانت فاعلة في السرد أم كانت غير فاعلة شيء بديهي، باعتبار أن الشخصية والوظيفة التي تقدمها لا يمكن فصلها إلا إذا ارتبطت كل فكرة بنقيض ظاهر.
المعنى داخل الصورة
إن غاية السرد تكمن فيما يقدمه من معنى داخل الصورة التقليدية للمنظور الحكائي لأن عملية التوصيل تكون هي الغالبة على رؤية السارد، أما في النصوص التي تقدم أشكالاً مخصوصة في الكتابة كالنص الروائي والشعري والمسرحي، فإن غاية السرد تقدم وظيفتين مزدوجتين: الوظيفة الأولى: صورة جمالية للدلالة كما يمثلها حال النص. الوظيفة الثانية: صورة جمالية للشكل كما تقدمه أدوات السرد.
هذه الغاية تصبح في المنظور السردي جزءاً من بلاغته؛ لأنها لا تكتفي بتوصيل المعنى وإنما تمتد إلى روح النص لتقدم المعنى موصولاً بكثير من الصور الفنية التي بدورها تنحاز إلى الدلالة والتخطيط لها كما تنحاز إلى الشكل والتخطيط له، وقد تصبح مسألة التوصيل عائقاً أمام محاولات الراوي للوصول إلى صورة جمالية تنتمي إلى الذهن أو الفكر أو الواقع؛ ومن ثم يصبح التوفيق بين الجانبين أمراً بالغ الصعوبة، بين لغة تحمل الصورة، وصورة تحمل القيمة، وقيمة مبثوثة في شكل يجذب حواس المتلقي المعاصر.
ولذلك يطرح البحث كثيراً من التساؤلات حول بلاغة النص الحكائي منها: - كيف يمكن الخروج من مأزق التوفيق بين الجماليات التقليدية للبلاغة العربية والاتساع الأفقي والرأسي للنص الحكائي ممثلاً في الرواية؟ - كيف يحمل المنظور صورة بلاغية جديدة تضاف إلى ما تحمله الكلمة والجملة السردية القصيرة والطويلة من مجازات صغيرة؟ - كيف تحمل الشخصيات داخل النص القصصي الصورة نفسها بالإضافة إلى ما تقدمه من حركة وفاعلية داخل النص. - كيف يتحول الرمز داخل النص إلى مكون من مكونات الصورة البلاغية الجديدة والتي تستمد صيرورتها من تقنيات اللغة السردية.
فلا يمكن تأويل صورة إحسان شحاته في القاهرة الجديدة إلا بإضافة خمسة منظورات حكائية: الأول: إلام يرمز نجيب محفوظ بصورة هذه المرأة؟ الثاني: ماذا يقصد بصورة الأب والأم؟ الثالث: من هو الزوج؟ الرابع: من هو العشيق؟ الخامس: من هو الحبيب؟
نظرية بلاغية جديدة
وفي هذا الطرح يمكن أن يؤسس السرد لنظرية بلاغية جديدة تقوم على أدوات وأساليب ترتبط بدلالة النص من جهة، وتقدم منظوراً جديداً لبلاغة تعتمد على أنساق ومفاهيم كلية تستعين بأدوات وصور جزئية ترتبط ببلاغة الكلمة والجملة وصولاً إلى بلاغة الموقف والتصور والمنظور الحكائي والرمز انطلاقاً من السياق العام والخاص وحتى الظاهر المادي والغيبي المجازي، وفي ذلك ازدواج لرؤية الحكاية وتعمق لروحها وفلسفتها وعلاقتها بالواقع من جهة والراوي وأخيلته من جهة أخرى.
إن النص الأدبي المعاصر في حاجة ملحة إلى رؤى ومفاهيم بلاغية ترتبط ارتباطاً قوياً بالعناصر والمقومات التي تسهم في بناء النص ومستوياته المختلفة، وفي الوقت نفسه تقدم أنساقاً جديدة تنبع من السياقات المؤسسة للغة العربية، فلا يمكن على سبيل التمثيل ونحن نبحث في بلاغة النصوص الشعرية أو القصصية أو المسرحية أو التمثيليات المرئية أو المسموعة أن ينصب اهتمامنا على صورة بلاغية جزئية بكلمة في سطر أو سطر في تركيب لغوي طويل يصل أحياناً في نصوص مثل الرواية والقصة القصيرة إلى فصول كاملة أو حتى نصوص تقدم حركة دلالية واحدة.
إن البحث يطرح السرد والعناصر المكونة له والسياقات المصاحبة له كرؤية بلاغية للنصوص الجديدة، وهذا لا يعني التخلي عن المنظور البلاغي المؤسس (البلاغة القديمة)؛ وإنما يتم دمج هذه المنظورات ليمكن من خلالها طرح الرؤى البلاغية الجديدة ليشكل في الوقت نفسه سياقاً داخلياً للمنظور المؤسس أو المكون أو المؤول للنص؛ وسواء كان السرد رمزياً أم كان واقعياً أم كان تخييلياً فإن الإطار العام للحكاية يختلف باختلاف النصوص؛ فالسرد في القصيدة يخلق بلاغة تتفق في تصورها العام وتختلف في ما تقدمه من أدوات وأساليب بنائية ترتكز على عناصر حكائية / سردية، وفي القصة فإن التصور البلاغي لعناصر السرد تختلف هي الأخرى عن العناصر المقدمة في المسرحية؛ وهكذا فإن الحكاية وسرودها المختلفة وعناصرها المكونة، وارتباطها بالزمن والمكان تفتح آفاقاً تعبيرية وتصويرية وسياقية تخرج النصوص الأدبية المعاصرة من أزمة البحث عن وسائل لنقد النص، وتحيل إلى خصوصية تنبع من السياق التراثي والفكري الذى يؤسس لبلاغة اللغة العربية الجديدة وتنحاز في الوقت نفسه لتشكيلات دلالية ترتبط بتنوع المؤول، ولذلك فإن البدء بالسرد في القرآن الكريم "سورة يوسف" نموذجاً محاولة لتأصيل المتطورات السابقة وارتباطها بأدوات بلاغية يمكن البحث عنها في تراث الكتابة العربية القديمة والحديثة.
إن السرد ليس مجرد عرض لأحداث حقيقية أو تجارب ذاتية موغلة في المجاز، ولكنه خلق يوازي صورة الواقع الكائن أو الواقع المفترض أو الواقع المحتمل داخل الذوات وما يخلفه كل فضاء وزمان من تصورات حكائية موقفية أو أساليب سردية تتراسل فيها أدوات ووسائل الفن المعاصر ورؤية الراوي المنتج له.
الموقف الحكائي والسياق
السرد الأدبي في أصداء السيرة الذاتية يقدم موقفاً حكائياً مزدوج الرؤية، ففي جانبها الأولي يظهر السياق العام النابع من الجانب الفكري الفلسفي لرجل يعطي اللغة دفء الموقف الحكائي، ويعطي الموقف ذاكرة الراوي الذي لا يتخلى تماماً عن الجانب الذاتي في تمثيل للجانب الآخر من السياق متأملاً في العلاقة بين الصورتين، اللتين تكملان عملية الاتساق الفني.
إن الراوي لا يقدم سيرة ذاتية بالمعنى الموضوعي للسيرة، ولكنه يقدم روح الذات إذا التبست بالواقع والتراث والثقافة الشعبية والخلقية التي تصبغ واقعين لا ينفصلان. "دعيت للغناء ولكني شغلت بالخواطر والهواجس". "انتزعت حواسي لاجتياز الغابة الدرامية" .
وتقوم المجازات الصغيرة بدور جوهري في ترصيع جوانب الموقف الكلي الذى يعتمد عليه الراوي في بناء النص اعتماداً كلياً تتمثل هذه المجازات الصغيرة في الجانب الخفي من الرؤية الثانية، وهي: صورة الذوات المكملة للموقف وصاحبة التأويل. صورة الراوي وما يقدمه من منظورات. مجاهدة الذات ممثلة في الحركة التي يُبنى عليها المنظور.
وهكذا يخرج نجيب محفوظ الحكاية من ضيق التصور الواحد إلى رحابة تأويل المواقف السردية التي تتحول إلى السرد عن الغائب والحاضر بين الأفعال والذوات والأزمنة والأمكنة وفي تضفير مؤسس لمواقف سردية تقوم على الاتساق الفني بين عناصر الحكاية وعناصر الرمز وعناصر الصورة الكلية المؤسسة لبلاغة الموقف.
كاتب مصري